الكتاب: مطالعات في الدين والاسلام والعصر المؤلف: محمد خاتمي الناشر: دار الجديد - بيروت 1998 اذا كان التوفيق بين النقل والعقل شكّل في العصور الغابرة احدى المشكلات الاساسية التي طرحها المفكرون العرب المسلمون، فإن التوفيق بين التديّن ومتطلبات الفكر والحياة المعاصرين يشكّل احدى المشكلات الاساسية التي تواجهها المجتمعات العربية والاسلامية في ايامنا الحاضرة. تنحصر المشكلة، مشكلة التوفيق في أبعادها الفردية والاجتماعية والسياسية كما يعالجها السيد محمد خاتمي رئيس جمهورية ايران الاسلامية، في كتابه "مطالعات في الدين والاسلام والعصر"، في قراءة الدين الاسلامي قراءة مغايرة مفادها "ان الدين شأن مقدّس، ولكن لا بد من القبول بحقيقة ان تصوّرنا له موضوع بشري دائماً". بمثل هذا المنطلق من القراءة يفصل السيد خاتمي بداية بين الدين في كونه حقائق مطلقة ومتسامية ومقدسة، وبين تصورات الانسان عن الدين التي هي تصورات ونسبية وقابلة للخطأ. يكتب خاتمي: "ان الطامة الكبرى التي تؤدي الى الكارثة في مجتمع المتدينين تظهر عندما تُضفى قداسة الدين ومطلقيّته على تصورات الانسان عن الدين، مع انها تصورات زمانية مكانية محدودة ونسبية وقابلة للخطأ. ثم يعتقد الشخص او الاشخاص المحدودون ان ما توصلوا اليه إنما هو عين الدين والديانة. بل ويُخيّل اليهم آنذاك ان الشخص الذي يعتقد الاعتقاد هذا لهو مثال المتدين الحق. ومن هنا تنجم اكثر حملات التكفير والرمي بالفسق والفجور فضلاً عن الصدام والعراك". وهنا بالضبط يضع السيد خاتمي إصبعه على أهم وأبرز مشكلة واجهت المسلمين قديماً وحديثاً في رعاية شؤونهم الاجتماعية والسياسية، وهي ان المتدينين من بينهم ينقلون القداسة والاطلاق والسمو - والتي هي صفات جوهر الدين وحقيقته - الى تصوراتهم النسبية والمحدودة بالزمان والمكان والى فهمهم للدين، فيجوّزون ما يجوّزون، ويحرفون ما يحرفون، ويجعلون من الدين مرادفاً لتصوراتهم ومعادلاً لتفسيراتهم وتأويلاتهم. ان أخذ السيد خاتمي بمقولة ان حقيقة الدين تختلف عن حقيقة تصورنا للدين، من حيث ان الأولى قدسية مطلقة وسامية. والثانية نسبية محدودة وقابلة للتغيّر، سمح له بتجاوز الخلافات في التصور بين أهل العرفان والفلاسفة وأهل الحديث والظاهرية، وحرّره من تركة أسلاف الزمان وفقهائه ووضعه وجهاً لوجه أمام مشكلات العصر الحديث يقرأها بروح متجددة انطلاقاً من القرآن الكريم، ومصادر الفكر الديني الاسلامي، وينابيع الفكر العالمي. أولى المشكلات التي يطرحها خاتمي في كتابه على سبيل المعالجة هي علاقة التراث بالحداثة. وهنا يتساءل: أمِن الافضل التشبث بالتراث أم الانجراف مع الحضارة الغربية وثقافتها؟ أم انه من الممكن إزالة التعارض والتناقض بطريقة اخرى لا تؤدي الى تدمير حياة المسلمين الاجتماعية ومصادرة هويتهم الثقافية؟ في الاجابة، يرى خاتمي ان التيارات التي حاولت الاجابة على هذه التساؤلات هي ثلاثة: التيار المتشبث بالتراث، والتيار المتغرّب، والتيار الاصلاحي، كانت وما زالت رهينة أنماط من التفكير إطلاقية. فالتراثيون اعتقدوا بأنه بالامكان العيش في اطار التقليد الضيّق الموروث عن سلفهم بايصاد الابواب في وجه امواج الحضارة الغربية وثقافتها المندفعة في كل اتجاه. والمتغربون خُيّل اليهم ان الأزمة قابلة للحلّ من خلال قبول الحضارة الغربية بجميع أبعادها ومتطلباتها ومستلزماتها، بما في ذلك ثقافة الحداثة، التي تختصر بتحقيق السعادة والتقدم والتحرر. وفي هذا السياق اعتقدوا بأن التراث عقبة كأداء يجب تجاوزها. لكن الحقيقة كما يعتبر خاتمي انهم عجزوا عملياً عن اداء دور يذكر امام الواقع الماثل في المجتمع ولم يتمكنوا في اي وقت من الحصول على موطئ قدم في مجتمع يعي التراث ويأنس به. اما الاصلاحيون فقد ابتلوا في أغلب الاحيان، على رغم جهودهم الايجابية على ما يقول خاتمي، بالتيه والاضطراب بسبب الازمة العميقة والواسعة التي عصفت بحياة المسلمين الفكرية والاجتماعية. ينطلق الاصلاحيون في عملهم من مبدأين: الاول هو العودة الى الذات، واحياء الهوية الثقافية التاريخية لأمتهم وشعبهم. اما الثاني فيقول بپ"التعامل الايجابي مع معطيات التمدن البشري" وفي الوقت ذاته اتخاذ الحيطة والحذر في مقابل نزعة الغرب التوسعية وتوجهه الاستعماري. يحدد خاتمي موقفه من هذه التيارات الثلاثة بالقول انه لا يجوز "اعتبار التراث امراً مقدساً لا يحتمل التغيير"، كما لا يجوز اعتبار النموذج الغربي في التنمية هو الاول والاخير. وعليه فان التراث والتنمية شأنان بشريان الاول متأصل في أعماق الروح والمجتمع، والآخر ورد من الخارج ونفذ الى حياة المسلمين. المهم هو النظر الى التراث والتنمية، كما يقول خاتمي، على أنهما شأنان بشريان وليسا حقيقة مطلقة وغاية نهائية منشودة، كما ابتُلي بذلك - على حدّ تعبيره - كثير من التقليديين المتحجرين والمتظاهرين بالحداثة السطحيين. يكتب مؤلف الكتاب في هذا السياق: "لِمَ لا نحاول ايجاد علاقة جديدة مع الوجود بذهابنا الى أبعد من الحاضر، وذلك بالتسلح بنقد الحداثة والتراث معاً، وأن نكون اصحاب رؤية جديدة نقيم على ضوئها حضارة جديدة، وان نمثّل نحن مرحلة جديدة في حياة الانسان، في وقت نرتكز فيه الى ماضينا الذي أنتج حضارتنا، ونستفيد من معطيات الحضارة الحديثة الباهرة، لا سيما واننا نمتلك في التاريخ سابقة حضارية تركت بصماتها على مصير العالم والانسان؟". ان الدعوة الى عدم الاستسلام لمحددات التراث، عند خاتمي، تقابلها الدعوة الى عدم الانبهار بالنموذج الغربي للتنمية. والدعوتان عنده تؤسسان على مفهوم الحرية. وفي توضيحه لمفهوم الحرية يعود خاتمي الى انجازات المفكرين والمتدينين الغربيين الذين قضوا على الاستبداد وانشأوا دولة العدالة والإخاء والمساواة. كما يعود الى نقد السلطة الاسلامية في التاريخ، التي حاولت باستبداديتها منع الانسان المسلم من الحضور في مضمار الحياة الاجتماعية والسياسية وبالتالي سحقت شخصيته بعد ان سلبت حقه في التعبير والفعل والسلوك. لا شك في ان ظهور الاسلام، على ما يرى خاتمي، هزّ قواعد الاستبداد أو كما يقول الفارابي "التغلّب"، لكن هذا الامر لم يدم اكثر من أربعين سنة انتهى بانتهاء العصر الراشدي، اذ "عاد الاستبداد والقهر ليحكما الامة الاسلامية ويتحكما بها على نحو أخطر، ولكن مع فارق هذه المرة تمثل بالسعي لتوجيه هذا التغلب والاستبداد وقهر السلطة على أساس قواعد الدين الاسلامي ذاته!". وبسبب هيمنة حاكمية التسلّط كما يردد خاتمي، لم تبرز الفرصة للتأمل في المصير السياسي والتي بدأت مع الفارابي وانتهت معه من حيث اهتمامه بالفلسفة السياسية والفكر المدني، وإنما سيق مسار البحث باتجاه عوالم ما بعد الطبيعة وأهملت السياسة بنفي موضوعها. وبتعبير الفارابي الذي ذهب الى القول ان ادراك الوجود الحقيقي ونيل السعادة يستلزمان إبطال وجود هذا العالم أو لوازمه، اي جميع ما له صلة بهذه الدنيا، والمجتمع المدني بين ذلك. وبنفي الدنيا والانسحاب من مسرح الحياة سقطت السياسة - على ما يقول خاتمي - بأيدي المستبدين، وفي اجواء مثل هذه إنكفأ العلماء والنخب الى عالم الفكر والنظر الى مضمار البحوث الكلامية وميدان التاريخ الفرقي، بدلاً من التركيز على ماهية التغلّب الموجود. اما الناس فواجهوا احد امرين: إما الاذعان والتعايش، وإما مواجهة سلطة الحاكم واستبداده استناداً الى القوة والارهاب والسيف. يكتب المؤلف: "كان ذلك كله مؤلماً، بيْد ان الأمضّ ألماً منه ان تتعاطى الامة الاسلامية مع هذا المصير المضطرب على انه تقدير الهي أو طبيعي لا مفرّ منه، حين لم تعد تستطيع ان تفكر في المجال السياسي خارج إطار التغلّب". ان تفكّر سياسياً مع خاتمي خارج اطار التغلّب معناه ان تقدّم الحرية على التنمية، ان "مرادي من الحرية في هذا المضمار، هو حرية الفكر، وتوافر عناصر الأمان في ابرازه والتعبير عنه، وتهيّؤ المقدمات الكفيلة بالحفاظ على هذه الحرية وضمان أمن الاحرار وأصحاب الفكر". ان تهيؤ المقدمات لدخول مُناخ الحرية وبناء مجتمع الحرية يبرزان عند خاتمي بشكل واضح في نقده للاسلاميين المتزمتين الذين يقحمون الدين في كل شاردة وواردة، انطلاقاً من اعتباراتهم ان الله عز وجلّ عيّن شكل الحكومة والحاكم ايضاً، وان الناس مكلّفون بالطاعة حصراً. يري خاتمي ان الاسلاميين المتزمتين ينطلقون من اعتبار التصورات الدينية ما وراء أو ما فوق بشرية، ويذهبون الى إضفاء القدسية عليها وفرض طاعتها والعمل بما تقوله. اما الرأي الآخر وهو الرأي الذي يميل اليه خاتمي فيعتبر ان مصدر الدين إلهي، وانه من فوق نزل وحدد الإطار للحياة، ولكنه ترك التفاصيل للاجتهاد والتفكير "الشيء الثابت والمقدس هو جوهر الدين اما فهمنا للدين فأمر بشريّ ونسبيّ في الغالب وقابل للتغيير. جوهر الدين لا يقبل التغيير بل فهمنا له هو القابل لذلك". وفي ما يتعلق بمسألة الدولة فإن الدين، كما يقول خاتمي، حدد الضوابط الاساسية والاطار العام، اما الحكومة فأمر مرجعه الى الناس. والحكومة مسؤولة أمامهم. ولا يحق لأحد ان يفرض الحكومة على الناس، وللناس حق مُساءلة الحكومة، وللافكار ان تُطرح على المستوى العام، والرأي الذي تقف الغالبية الى جانبه ينبغي ان يسود. والحكومة إن كانت محقة ورفضها الناس تفقد شيئاً من شرعيتها. انها الديموقراطية، كما يقول خاتمي، ذات الجذور الموغلة في التاريخ الانساني والتي تحدث عنها أفلاطون وأرسطو والتي سماها الفارابي مدينة الاحرار او المدينة الفاضلة. وهي كما عرفها هؤلاء الثلاثة قديماً النظام السياسي الذي يكون كل فرد فيه حراً في فعل اي شيء ومساوياً للآخرين. يكتب خاتمي في هذا السياق: "أؤيد الديموقراطية بالطبع، فهذا الفكر... ينسجم مع الدين. ثم ان احداً لا يستطيع اختيار طريق غير ديموقراطي من دون الاعتماد على القوة... والذين يرفضون الديموقراطية سبيلاً فانهم يدعون الى الديكتاتورية والقهر". والديموقراطية حسب خاتمي، لا تتنافى، طريقاً أو سبيلاً، مع الاسلام كما يتضح من المأثور عن الرسول والصحابة والأئمة. ويضيف ان للديموقراطية سلبيات ولكن سلبياتها تبدو أقل ضرراً من سلبيات الانظمة الديكتاتورية. يكشف كتاب خاتمي "مطالعات في الدين والاسلام والعصر" الهواجس والاشكاليات التي تكتنف خطاب الوعي الديني عند المسلمين اليوم من حيث سعي أصحابه الى التوفيق بين الدين والديموقراطية والتنمية. كما لا بدّ له ان يكشف مستقبلاً مع تسلّم خاتمي الرئاسة في ايران، عن مدى مقاربة الفكر للواقع، والنظرية للتطبيق.