من الطبيعي القول، اليوم، ان اندلاع الحرب الأهلية في روسيا بعد قيام ثورة اكتوبر تشرين الأول 1917، كان يجب أن يكون أمراً متوقعاً، فالقوى المعادية للثورة كانت كثيرة، تبدأ بالشرائح التي كانت لا تزال على ولائها للقيصر وللحكم القديم، وتصل حتى الى قوى كانت حتى الأمس القريب حليفة للشيوعيين ولمن كان يسير في ركبهم. ومع هذا كان قادة الثورة الذين حققوا انتصارهم الكبير على مراحل بعد أن استولوا على التحرك الثوري الذي كان بدأ بورجوازياً بقيادة كيرنسكي، كانوا في دهشة كبيرة من أمرهم أمام قوة المقاومة التي جابهتهم، لا سيما في مناطق وأقاليم كان يخامرهم الاعتقاد، في البداية، انهم كسبوها بداهةً. ولكن، وكما يحدث دائماً حين يلوح ما يؤكد كلام الشاعر العربي من أن الرياح تجري دائماً بما لا تشتهي السفن، ان الثورة المضادة كان في قيادتها قوى محسوبة على الثوار الشيوعيين أنفسهم، خصوصاً من تلك المنتمية الى القيادات "النارودنية" الثورية المتطرفة، والاشتراكية الثورية وما الى ذلك. لقد دخلت هذه القوى تحالفاً غير مقدس - مع ما كان يسمى في ذلك الحين، "القوى الرجعية" أو "البيض". ولكن، خصوصاً مع القوى الأجنبية وفي مقدمها بريطانيا العظمى، التي راحت ترى الخطر يكبر في الحكم الروسي الجديد. واذا كان التحرك الذي مارسته قوى الثورة المضادة قد بدأ بطيئاً أول الأمر بحيث بدا وكأنه من الأمور الطبيعية جداً، فإنه ابتداء من 19 أيار مايو 1918 راح يتخذ سمات اخرى. اذ تحول منذ ذلك اليوم الى ما يشبه الحرب الأهلية. لم يعد التحرك مجرد مناوشات تبدو عابرة. وكان العامل الحاسم في ذلك الانتصار الكبير الذي كان البلشفيون أحرزوه في اوكرانيا خلال الأسابيع السابقة. مع ذلك الانتصار أدرك "اعداء الثورة" أن المسألة أصبحت جادة وانهم ان لم يتحركوا على نطاق واسع سوف يتيحون الفرصة للبلشفيين بالاستفراد في حكم البلاد. وهكذا، أفاق قادة الثورة البلشفية في صباح ذلك اليوم ليجدوا انهم باتوا يجابهون اكثر الأخطار في تاريخ انتصارهم، جدية. وكان ستالين، في ذلك اليوم بالذات، الأكثر تنبهاً الى ما يحدث. وفي المقابل كان لينين لا يزال يؤمن بأن ما تشهده البلاد مجرد مناوشات لا تستوجب استنفاراً بلشفياً عاماً. ودار نقاش في أجواء القيادة، في ذلك اليوم بالذات، محوره الأساسي تحديد ما اذا كان في الأمر حرب أم مجرد أحداث متفرقة. ووقف كثيرون الى جانب لينين فيما وقفت اقلية الى جانب ستالين. وعند نهاية ذلك الاجتماع الخطير والاساسي، انتصرت وجهة نظر ستالين الذي كان عرف كيف يقنع تروتسكي وغيره بصواب رأيه القائل بأن على البلشفيين الآن، الا يكتفوا بالدفاع عن انفسهم وعن مكتسباتهم، بل يجدر بهم، أخيراً، ان يتخذوا زمام المبادرة معترفين بأنه يجب تأجيل كل شيء لمصلحة البناء الاشتراكي والدعاية الثورية وتأطير الشعب العامل، حتى تحسم المعركة، فاليوم كل شيء في خطر ويجب وضع النظريات جانباً، مهما كان المستقبل مرتبطاً بها. وهكذا، خرجت القيادات الشيوعية من اجتماعها في ذلك اليوم لتعلن أن ما تعيشه البلاد الآن انما هو حرب أهلية حقيقية. وهكذا بدأ الاستنفار الكبير اعتباراً من ذلك اليوم وراح البلشفيون يضعون امكاناتهم كلها، تحت شعار خوض الحرب الأهلية لإلحاق الهزيمة بالاعداء الطبقيين. وأسرع ستالين، قبل أي زعيم آخر الى الجبهة ليقاتل، وقد ادرك أن عليه منذ تلك اللحظة وصاعداً أن يطور انتصاره السياسي ذاك، اذ ربما يواصله، ذات يوم الى ما يصبو للوصول اليه. ودامت تلك الحرب الأهلية، كما نعرف، سنوات عديدة، وانتهت بانتصار البلشفيين، ولكن لينين دفع الثمن، اذ حاول الاشتراكيون الثوريون قتله بتهمة خيانة مبادئ الثورة، أما ستالين فكانت تلك بدايته الفعلية. وأما القوى المعادية فقد احتاج تشتيتها والانتصار النهائي عليها الى سنوات خرجت البلاد بعدها منهكة من مشاهد الحرب الأهلية في روسيا.