"لقد تم خلع الحكومة المؤقتة، وانتقلت السلطة لتصبح بين ايدي اللجنة العسكرية الثورية، وهذه اللجنة سوف تعمل من فورها على تأمين سلام ديموقراطي، وعلى الغاء الملكية العقارية، كما على فرض الرقابة العمالية على الانتاج، وتشكيل حكومة مجالس سوفيات". كانت الساعة العاشرة من مساء يوم 7 تشرين الثاني نوفمبر - 25 تشرين الأول اكتوبر حسب التوقيت الروسي - 1917، حين أدلى ليون تروتسكي بهذا التصريح، الذي ربما لم يكن يعرف هو نفسه، أو يتوقع، ان يشكل البداية لقيام واحدة من اكبر الامبراطوريات في القرن العشرين، امبراطورية سوف تدوم نحواً من ثلاثة أرباع القرن وتلعب طوال سنوات عمرها واحداً من أخطر الادوار في تاريخ البشرية: الامبراطورية السوفياتية. في تلك الليلة، كان كل ما يخامر أفكار تروتسكي واصحابه وفي مقدمتهم لينين، فرحهم الطاغي بانتصارهم، ذلك الانتصار الكبير الذي لم يكلف البلد، في ذلك اليوم على الأقل، سوى ستة قتلى، بمعنى ان الثورة الاكثر احمراراً في تاريخ البشرية، كانت ثورة بيضاء ضئيلة الدماء. اذن، بين يوم وليلة، تحولت روسيا لتصبح دولة شيوعية يقودها البلاشفة الذين كان زعيمهم لينين قد وصل الى بتروغراد قبل أسبوعين قادماً من منفاه، عبر فنلندا التي كان يقيم فيها منذ آب المنصرم، بعد ان ساعد الألمان على نقله الى هناك حتى يكون قريباً من رجال حزبه ساعة الثورة. والحال ان الدور الالماني في مساعدة الثورة الروسية والتهيئة لها، بدأت ملامحه وخطوطه تتكشف مؤخراً فقط، بعد ان ظل المؤرخون طويلا عاجزين عن الربط بين رغبة الالمان في اخراج روسيا من الحرب العالمية الاولى، والواقع الذي يقول لنا بأن من أولى الخطوات التي اتخذتها القيادة الثورية الروسية الجديدة، خطوة اعلان خروج روسيا فعلاً من تلك الحرب، وصولاً بعد ذلك الى توقيع الصلح مع الالمان... هنا نبقى عند تلك "الليلة الكبيرة": ليلة قصر الشتاء، الليلة. التي تحقق فيها حلم لينين واصحابه، وكانت التمهيد الأول لاعلان الدولة السوفياتية. ففي الساعة الثانية من فجر ذلك اليوم، قامت قوات الحرس الأحمر، من جنود وبحارة يقودهم ليون تروتسكي بنفسه، بوصفه رئيساً للجنة الثورية العسكرية، قامت تلك القوات بالدخول الى بتروغراد، وتولت من فورها الانتشار والاستيلاء على النقاط الحساسة في المدينة. مراكز الهاتف والبرق، مقار الوزارات، مصارف الدولة، ومحطات السكة الحديد... غير انها استنكفت عن مهاجمة قصر الشتاء، للوهلة الاولى، لماذا؟ لأنه كان مخفوراً من قبل طوابير من النساء المجندات، ولم يكن رجال الثورة راغبين، في يومهم الثوري الأول، في ان يتركوا أي مأخذ من هذا النوع يؤخذ عليهم. والحال ان استنكاف الثوار عن مواجهة قصر الشتاء أو حتى عن محاصرته بشكل جدي، كان هو الذي أتاح لألكسندر كيرنسكي، رئيس الحكومة المؤقتة، ان يفر، بواسطة سيارة السفير الاميركي، الى حيث حاول ان يجمع عند الجبهة جنوداً يناصرونه ويجابه البولشفيك معهم. اما الحرس الاحمر فانه انتظر حتى المساء ليتسنى الهجوم النهائي على قصر الشتاء محققاً، بهذا، الاستيلاء الكلي على المدينة، وهو بدأ هجومه بانذار وجهه الى المدافعين والمدافعات عن القصر. فلما لم يحركوا ساكناً، شن الهجوم وتم احتلال القصر وأسر العديد من وزراء الحكومة الذين كانوا ملتجئين اليه. ولقد سقط في تلك المعركة الفاصلة ستة قتلى من الجنود. عند الجبهة، لم يتمكن كيرنسكي من تجميع اي جنود راغبين في مقاتلة البولشفيك، لأن ا لحرب ضد الالمان كانت قد انهكتهم، وهذا ما اضطر رئيس الحكومة الفار الى التنكر في ثياب امرأة كي يتمكن من مواصلة هربه. اما في بتروغراد، فلقد تمكن تروتسكي وثواره من السيطرة الكلية على المدينة وتأمين الدفاع عنها، ولا سيما في وجه قوات الجنرال كرازنوف الذي حاول بعد أيام ان يستعيدها لحساب كيرنسكي ففشل، في الوقت الذي كان فيه البولشفيون يخوضون، في موسكو، معارك عنيفة، انتهت يوم 16 من الشهر نفسه باستيلائهم على المدينة والسلطة في آن معاً.