كانت الاحداث تتلاحق بسرعة غريبة في ذلك الحين، بعد ان تلاحقت بسرعة أقل طوال الشهور المنصرمة من ذلك العام. فالثورة كانت قامت بزعامة الليبرالي الكسندر كيرنسكي وبمشاركة العديد من الاحزاب الثورية والاشتراكية والديموقراطية، في روسيا التي كانت سئمت الحكم القيصري وقررت ان تبدل من رأس الحكم فيها بطريقة من الطرق. غير ان أحداً لم يكن ليتصور باكراً، في ذلك العام، ان ثوريي الأقلية - اي الشيوعيين البلاشفة - سيكونون هم، من يستولي على السلطة في نهاية الأمر. لكن ذاك كان ما حدث، وفي اليوم الحادي والعشرين من تشرين الأول اكتوبر 1917، أي بعد أشهر من تخبط الجبهة العريضة التي كانت قامت بالثورة على القيصر، وصل فلاديمير ايليتش لينين الى بتروغراد، وكان وصوله إيذاناً بقلب الأمور رأساً على عقب، وكذلك إيذاناً بنهاية كيرنسكي. منذ شهر آب اغسطس السابق كان لينين مقيماً في فنلندا، متردداً في الذهاب الى روسيا. ومن المعروف ان الألمان الذين كانوا في ذلك الحين يخوضون حرباً بدت لهم يائسة في نهاية الأمر ضد الحلفاء، كانوا هم الذين ساعدوه على الوصول الى فنلندا، ليكون قريباً من روسيا إثر عودته من منفاه السويسري. وسوف يكون الألمان ايضاً هم الذين سيساعدون لينين، متنكراً بشكل صعب فيه على أحد ان يتعرف عليه، على الوصول الى بتروغراد. ولينين، وهو في منفاه في الاعوام الأخيرة لم يكن يضيع وقته. كانت تلك هي المرحلة التي كتب فيها مؤلفه "الدولة والثورة" حيث طور الفكرة الماركسية التي كانت تقول ان كل دولة ما هي سوى الأداة التي بها تسيطر طبقة على طبقة أخرى. وتبعاً لنظريات لينين في ذلك الكتاب، كان على القيادة البولشفية ان تُري الشعب سبيل الوصول الى النظام الاشتراكي، وأن تحاول الاستيلاء على السلطة على طريق العصيان المسلح. بالنسبة اليه كان على الحزب ان يستولي على السلطة، ليس من أجل الإطاحة بالقيصر وإقامة حكم ليبرالي، بل من أجل بناء الاشتراكية واقامة ديكتاتورية البروليتاريا. هذا كله لم يكن يعني الألمان الذين راحوا يساندونه في ذلك الحين. كان كل ما يعنيهم ان تسقط الحكومة القائمة لكي تخرج روسيا من الحرب العالمية الأولى فيخف عن القوات الألمانية ضغط الجبهة الشرقية. وهكذا، ساعدوه على الوصول الى بتروغراد في ذلك اليوم. وحين وصوله لم تكن الأوضاع سيئة بالنسبة الى حزبه، حيث ان نفوذ البلاشفة كان يتزايد، بعد ان بدت حكومة كيرنسكي عاجزة عن تموين مدن ضخمة ومكتسبة أصلاً الى جانب الثورة قبل بتروغراد وموسكو. وازاء التفكك الذي بدا على الوضع وعلى حكومة كيرنسكي، ولأن قطاعات عريضة من الشعب لم تكن راغبة في النكوص والعودة الى الحكم القيصري، كان البلاشفة هم الحل، خاصة وانهم كانوا القوة الأكثر تماسكاً والأوضح في أهدافها. من هنا راح نفوذهم يتزايد في أوساط العمال بشكل اساسي، ولكن في أوساط الجنود ايضاً. وهم خلال معظم الانتخابات التي راحت تجري داخل المجالس السوفيات كانوا يحصدون انتصاراً اثر انتصار وينالون غالبية الاصوات، ما أتاح لهم في نهاية الأمر ان يسيطروا على لجان العمال والجنود في العاصمة بتروغراد كما في موسكو. وبدأوا - بالطبع - يشاكسون على الحكومة عبر تظاهرات واضرابات، وكذلك عبر الدعوة الى السلام والخروج من الحرب ضد الألمان. وهكذا حين وصل لينين بات من الواضح ان السلطة ستؤول اليهم. وهذا ما كانت عليه الأمور بالفعل بعد اسابيع قليلة، حين قامت "ثورة اكتوبر" في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر حسب التقويم الروسي القديم، التي كانت في حقيقتها انقلاباً عسكرياً، حيث هناك مشاهد كثيرة صورت في ذلك الحين للهجوم على قصر الشتاء تؤكد ان معظم المهاجمين كانوا من الجنود. هذه الوثائق اختفت بعد ذلك ليقال انها كانت ثورة عمال وفلاحين، لكن تلك حكاية اخرى.