في الاسطر التي تلي، يلخص علي الشوك فصلاً من كتاب جديد للمؤرّخ البريطاني اريك هوبسباوم بعنوان "حول التاريخ" دار ابكروس ، 400 صفحة ، يتناول فيه الجذر البعيد لأحداث لا تزال تتوالى فصولاً. هل يمكننا في ايما وقت ان نكتب تاريخاً دقيقاً عن أي شيء، بما في ذلك تاريخ الثورة الروسية؟ يبدو ان الجواب سيكون سلباً على نحو أكيد، رغم الحقيقة القائلة اننا في الواقع التاريخي الموضوعي، الذي يحاول المؤرخون الرجوع اليه، نلمس فرقاً بين ما هو حقيقي وما هو روائي. وحديث الثورات "الكبرى" ذو شجون. فقد شغلت الثورة الفرنسية المؤرخين طوال مئتي عام، ولا يبدو ان هناك ما يشير الى ان هذا الاهتمام سيقل. وها نحن في بداية طريقنا للوقوف على جبال من الوثائق في الارشيف السوفياتي. لذا، ان تاريخاً دقيقاً عن الثورة الروسية سيبدو مستحيلاً. لكن نهاية الاتحاد السوفياتي غيرت نظرة المؤرخين الى الثورة الروسية، لأنهم باتوا الآن قادرين - بل يجدون انفسهم مجبرين - على ان ينظروا اليها من منظور مختلف، على غرار كاتب سيرة انسان متوفى، وليس حياً. فنحن نستطيع ان نقدم تقييماً للثورة التي بدأت في روسيا، لكن الأوان لم يحن بعد لاعطاء مثل هذا التقييم عن نهايتها. ذلك ان الكارثة التي تعرضت لها شعوب الاتحاد السوفياتي السابق بزوال النظام السابق لم تنته بعد. وان القفزة المفاجئة، الثورية، من النظام السابق الى الرأسمالية التي فرضت عليهم حطمت الاقتصاد ربما اكثر مما فعلته الحرب العالمية الثانية، وثورة اكتوبر ايضاً، وتشير كل الدلائل الى ان استعادة اقتصاد هذه البلاد سيستغرق زمناً اطول مما كان في العشرينات بعد دمار الحرب الأهلية والاربعينات بعد دمار الحرب العالمية الثانية فحكمنا على الظاهرة السوفياتية بكاملها سيبقى محدوداً. مع ذلك، بوسعنا ان نطرح السؤال الآتي: على اي صعيد يستطيع مؤرخو الثورة الروسية ان يتفقوا اليوم؟ هل بوسعنا ان نصل الى اجماع حول مسائل تتعلق بتاريخ الثورة الروسية؟ صعوبات التاريخ الصعوبة التي تنهض امامنا بهذا الشأن هي ان الاجابة عن اسئلتنا حول الثورة الروسية وأبعادها لن تكون سهلة وواضحة، لأنها لا ترتبط بما حدث بقدر ما ترتبط بما لو كان حدث كذا، وكذا. فالكثير مما حدث بالفعل يمكن ان يُعرف الآن لأن المعلومات متوفرة، رغم ان معظم هذه المعلومات لم يكن الوصول اليه سهلاً في اثناء حياة الاتحاد السوفياتي، لأنه كان مخفياً خلف الأبواب المغلقة والحواجز من الاكاذيب وأنصاف الحقائق. لذا ينبغي اطّراح ركام المعلومات التي ظهرت في ذلك الحين، رغم اهميته في الرجوع الى مصادر ولو جزئية وتنطوي على نسبة ما من الصدقية. فنحن لم نعد بحاجة اليها الآن. ذلك ان الاسئلة التي تطرح نفسها بالحاح حول تاريخ روسيا في القرن العشرين لم تعد حول ما جرى، بل حول ما كان يمكن ان يحدث. واليكم بعضها: هل كانت الثورة الروسية حدثاً لا مفر منه؟ هل كان بامكان القيصرية ان تنجو بجلدها؟ هل كانت روسيا في طريقها الى ان تكون نظاماً رأسمالياً ليبرالياً في 1913؟ وبعد ان حدثت الثورة، فان في جعبتنا مزيداً من الاسئلة المتفجرة حول الاحتمالات المضادة. على سبيل المثال: ماذا لو لم يعد لينين الى روسيا من سويسرا قبيل ثورة اكتوبر؟ هل كان بالامكان تفادي ثورة اكتوبر؟ ماذا كان سيحدث لروسيا لو امكن تفاديها؟ وبقدر تعلق الامر بالماركسيين: ما الذي جعل البلاشفة يتخذون قرار استلام السلطة مع برنامج حول الثورة الاشتراكية يفتقر الى الواقعية على نحو واضح؟ هل كان يتعين عليهم استلام السلطة؟ ماذا كان يحدث لو ان الثورة الأوروبية، اي الثورة الألمانية، التي راهنوا عليها، كتب لها النجاح؟ هل كان من المحتمل ان يُمنى البلاشفة بالهزيمة في الحرب الأهلية؟ وفي الحرب الأهلية، كيف تطور الحزب البلشفي والسياسة السوفياتية؟ واما وقد تحقق النصر للبلاشفة في الحرب الاهلية، هل كانت ثمة بدائل للعودة الى اقتصاد السوق في اطار السياسة الاقتصادية الجديدة التي تبناها لينين؟ ماذا كان يحدث لو استمر لينين في الحكم والعمل بكل نشاطه؟ القائمة لا نهاية لها، ولم نذكر الا بعضاً منها. بيد ان الهدف ليس تقديم اجوبة عن هذه الاسئلة، بل مجرد طرحها - اي الاسئلة - امام المؤرخ، لأن هذه الاسئلة، على ما تنطوي عليه من اهمية، لا يمكن الاجابة عنها في ضوء الأدلة المستقاة مما حدث، لأنها اسئلة عن احتمالات لم تحدث. وبالتالي فليس بوسعنا سوى القول ان موجة هائلة من النزعة الراديكالية الشعبية اجتاحت روسيا في خريف 1917، وكان البلاشفة المستفيدين الأساسيين منها. وان هذه الموجة اكتسحت الحكومة الموقتة حكومة كيرنسكي التي تمخضت عنها ثورة شباط بعد سقوط القيصرية، حتى لقد بدا وكأن السلطة لم ينتزعها البلاشفة في ثورة اكتوبر بقدر ما جاءتهم غنيمة سهلة. حركة تآمرية؟ ولدى المؤرخين ادلة واضحة بهذا الشأن. اما الفكرة القائلة بأن ثورة اكتوبر لم تكن اكثر من انقلاب تآمري فلن تصمد امام المناقشة. ولادراك ذلك ما عليك الا ان تقرأ التقرير الذي كتبه قبيل ثورة اكتوبر مراسل "المانشستر غارديان" في حينها، فيلبس برايس، بعد جولة استغرقت بضعة اسابيع في مقاطعات الفولغا. كتب في حينها يقول: "ان المتعصبين المتطرفين الذين لا زالوا يحلمون في ثورة اجتماعية في كل أوروبا، يحظون الآن، في ضوء ما شاهدته في المقاطعات، بتأييد هائل وان كان غير متبلور". وفي المقالة نفسها اشار فيلبس برايس الى ان من شأن العداء الكبير للحرب الذي شد الجماهير المتبلبلة بعضها الى بعض وهيأها للثورة، ان يخلق "نابليوناً... دكتاتوراً سلمياً... ينهي الحرب حتى لو ترتب على ذلك التفريط بأراض روسية وجاء على حساب الحريات السياسية التي اكتسبتها الجماهير بعد الثورة". لكن المراسل البريطاني الذي تنبأ بنجاح الثورة لم يعتقد انها ستقوى على البقاء. وهذا ما لم يحدث، لأن الثورة تغلبت على الصعوبات. هنا تنهض ثلاثة احتمالات مغايرة لما وقع بالفعل. احد هذه الاحتمالات، مع انه يبدو مثيراً، الا انه لا يصمد امام التحليل. خذوا لينين، او لأجل هذه المسألة، ستالين. بدون الكفاءة الشخصية لهذين الرجلين، كان تاريخ الثورة الروسية يواجه صعوبات جمة بلا شك. فمع ان الافراد لا يستطيعون دائماً ان يؤثروا في مجرى التاريخ، على رغم كل ما يتمتعون به من قدرات سياسية وأيديولوجية، الا ان بعضهم، في بعض الاحيان يستطيع ان يلعب دوراً ملموساً، كما هو الحال مع لينين وستالين، وكذلك ايضاً في السنوات الاخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي. فبهذا الصدد - الاخير - قال مدير سابق لمكتب الاستخبارات الاميركية CIA للبروفسور فريد هاليداي في حوار اجراه تلفزيون الپ"بي.بي.سي": "انني اعتقد بأنه لو كان اندروبوف اصغر عمراً بخمسة عشر عاماً عندما استلم السلطة في 1982، لكان الاتحاد السوفياتي لا يزال معنا حتى الآن، ماضياً في تدهوره الاقتصادي، وتخلفه التكنولوجي المتزايد... لكنه كان سيبقى على قيد الحياة حتى الآن" ينظر بهذا: من بوتسدام الى البريسترويكا، حوار مع فريد هاليداي، لندن 1995. وأنا لا احب ان اتفق مع رؤساء الپCIA، لكن هذا يبدو لي معقولاً بصورة كلية. ولا شك ان هناك فوارق بين طبائع البشر وظروفهم. فإذا كان ستالين قد عمد الى تعزيز قوته الشخصية في مقابل ما فعل هتلر، فلم يلجأ لينين الى مثل ذلك. ومع ذلك هناك مجال لمزيد او قليل من الفظاظة في مشروع التصنيع السريع الذي تم وفق الخطة السوفياتية. على انه اذا كان الاتحاد السوفياتي يجد نفسه ملزماً بتحقيق مشروع كهذا، فعلى رغم كثرة التزام الملايين به، كان يترتب على ذلك مزيد من الاكراه، حتى لو قاد الاتحاد السوفياتي رجل اقل قسوة وغلظة من ستالين. وهذا الكلام يعيد الى الاذهان ما جاء في رواية "اطفال الأربات" السوفياتية، التي يتحدث فيها مؤلفها عن اسباب القسوة التي رافقت سنوات التصنيع مشاريع السنوات الخمس، حيث جاء ان اختصار مئة سنة من التصنيع - كما حدث في بريطانيا - بعشر سنوات لا بد ان يتم عن طريق الاكراه ومزيد من الديكتاتورية: فلم يكن مسموحاً للعامل، الذي هو اصلاً فلاح، ان يتقاعس او يقصر في عمله او ان يسبب عطلاً حتى غير متعمد لآلته، والا فالويل والثبور له، والا تعذر تحقيق برنامج التصنيع بالسرعة المنشودة. وربما كانت الامور قد جرت مجرى آخر لو كان لينين عاجزاً عن الخروج من سويسرا حتى عام 1918، او في اقصى الاحتمال، كان يمكن ان يكون منحاها مختلفاً جداً، او ليس مختلفاً جداً. مجتمع رأسمالي ليبرالي؟ وإذا انتقلنا الى مجموعة اخرى من التصورات المغايرة لما وقع بالفعل، فسنجدها اكثر اثارة للاهتمام. لنأخذ، على سبيل المثال، سقوط القيصرية. لم يتوقع احد قبل 1900 ان تبقى القيصرية على قيد الحياة في عمق القرن العشرين. لقد كانت الثورة الروسية متوقعة في العالم كله. وماركس نفسه توقع في 1879 انهياراً كبيراً وليس بعيداً في روسيا. كذلك كان رأي السياسي البريطاني الذي نقل هذا الرأي الى ابنة الملكة فكتوريا: انه ليس بعيداً عن الاحتمال. ولدى مراجعة الاحداث الماضية يبدو ان فرص القيصرية بعد صمودها امام ثورة 1905 كانت قليلة، وفي واقع الحال بلغت طريقاً مسدوداً قبل الحرب العالمية العظمى. ولسنا بحاجة الى ان نستدرك في ضوء الفرضية القائلة بأن روسيا القيصرية كانت بخير وفي طريقها الى ان تصبح مجتمعاً رأسمالياً ليبرالياً مرفهاً عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وجاء البلاشفة على حين غفلة، وقضوا هم والحرب عليها. وبالمناسبة، حتى الليبراليون لم يذهبوا الى القول عن ثقة بأن نظاماً برلمانياً - ديموقراطياً ليبرالياً في روسيا كان محتملاً بعد سقوط القيصرية. ويذكر أريك هوبسباوم ان الانتخابات الحرة الوحيدة التي جرت في روسيا بعد ثورة اكتوبر مباشرة، من اجل الجمعية التأسيسية، تمخضت عن حصول الليبراليين البورجوازيين على خمسة في المئة فقط، والمناشفة على ثلاثة في المئة فقط. كما ان الشيوعيين، هم الآخرون، لهم احلام من قبيل "فقط لو". فجيل هوبسباوم ولد في 1917 على سبيل المثال، شهد قصة عرقلة الثورة الألمانية في 1918 من قبل قادة الحركة الاشتراكية الديموقراطية المعتدلين. وجماعة ايبرت وشايدمان اجهضوا مشروع الثورة البروليتارية الاشتراكية الالمانية، وبذلك بقيت روسيا السوفياتية في عزلة، وأمنية ماركس وأنغلز المنطقية لم تتحقق، وبالذات فالثورة الروسية يمكن ان تكون بمثابة مفجر للثورة البروليتارية في بلدان اكثر استعداداً لبناء اقتصاد اشتراكي. لكن اي رصد واقعي للاحداث قبل 1917 لم يتوقع ان القيصرية سيكتب لها البقاء، ناهيك عن تجاوز مشاكلها، لكن سيناريو ماركس - انغلز بدا في 1917 - 1918 ممكناً تماماً. ولا يلام الثوار الألمان والروس في 1917 - 1919 على ما كانوا يحملونه من اخطار كهذه، مع انني قلت في مناسبة اخرى انه كان يتعين على لينين ان يشحذ ذهنه اكثر في 1920. ذلك انه في غضون بضعة اسابيع او حتى اشهر في 1918 - 1919 كان يبدو ان انتقال الثورة الروسية الى المانيا ممكن. لكنه لم يحصل. ويعتقد ان هناك اجماعاً تاريخياً حول هذه المسألة. لقد هزّت الحرب العالمية الأولى بقوة جميع الناس الذين ذاقوا مرارتها، وان الثورات في 1917 - 1918 كانت، فوق كل شيء، انتفاضات ضد تلك المجزرة التي لم يسبق لها مثيل، لا سيما في البلدان التي كانت في الجانب الخاسر. لكن لا يعتقد ان المانيا كانت تنتمي الى القطاع الثوري في روسيا. ولم يُعتقد ان ثورة اجتماعية المانية كانت محتملة بأي شكل من الاشكال في 1913. وعلى نقيض القيصر الروسي، باستثناء الحرب، كان بوسع المانيا القيصرية حل مشاكلها. ولا شك ان القادة الاشتراكيين الديموقراطيين المعتدلين لم يكونوا يريدون ان تقع الثورة الألمانية في ايدي الاشتراكيين الثوريين، لأنهم هم انفسهم ما كانوا اشتراكيين ثوريين. بل حتى انهم لم يرغبوا في التخلص من الامبراطور. لكن تلك مسألة اخرى. ان ثورة المانية على غرار ثورة اكتوبر، او اي شيء مشابه لها، لم تكن متوقعة، وبالتالي لم تكن بحاجة الى ان تُغدر. فلينين كان مخطئاً في رهانه على الثورة الألمانية، لكنه يجوز الاعتقاد بأن لينين كان بوسعه ان يدرك ذلك في 1917 او في 1918. فلم يبد الأمر كذلك في حينها. وهنا نجد الفرق بين استرجاع احداث التاريخ والتصورات المعاصرة. فلو تعين علينا في السياسة ان نتخذ قرارات، مثلما فعل لينين، لكنا اتخذناها كما نراها يومئذ، وكان من الطبيعي ان نراها مثلما رآها. لكن الماضي قد حدث، ولا يمكن تغيير ما حدث، لهذا فاننا نرى الاشياء بوضوح اكثر. ان الثورة الألمانية لم تكن مباراة تحققت فيها خسارة في دورة سابقة. وان الثورة الروسية كتب لها ان تبني الاشتراكية في بلد كان متخلفاً ثم دمر نهائياً على الفور في الحرب الأهلية، مع الاقتناع بقول اورلاندو فيجس في ما ذهب اليه من ان لينين في 1918 كان تخلى بالفعل عن التفكير في ثورة تنتقل الى اوروبا. على العكس، يشك في ان الارشيف - الروسي - سيكشف ان القيادة السوفياتية على مدى عدد من السنين الاخرى، بقيت ملتزمة بالثورة العالمية كما فعل كاسترو وتشي غيفارا، وفي غالب الاحيان مع كثير من الاوهام والكثير من الجهل حول الوضع في الخارج كما هو الحال مع الكوبيين. تسلم السلطة من كيرنسكي فلينين كان مصمماً على اقتحام قصر الشتاء حتى لو كان على يقين من ان البلاشفة كانوا سيمنون بالهزيمة، مشياً على مبدأ "النهوض في عيد الفصح" على نحو ما يقال في ايرلندا: وذلك للقيام بتجربة للمستقبل، حتى على غرار ما قامت به كومونة باريس المهزومة. مع ذلك، ان استلام السلطة واعلان برنامج اشتراكي كان امراً مقبولاً فقط اذا كان البلاشفة يتوقعون ثورة اوروبية. ولا احد كان يعتقد ان روسيا كان بامكانها ان تحققها بمفردها. اذن، هل كان ينبغي لثورة اكتوبر ان تقوم في هذه الحال وإذا كان الجواب بالايجاب، فبأي دافع؟ هذا يضعنا امام الصنف الثالث من التصورات المغايرة لما حدث، الذي يطرح البدائل التي اعتبرت ممكنة في وقتها. ان المسألة لم تكن في الواقع ما اذا كان ينبغي ان يستلم السلطة شخص آخر من حكومة كيرنسكي الموقتة. ان هذا الاحتمال لم يكن وارداً في واقع الحال، لأن البلاشفة كانوا الفئة الوحيدة المرشحة لذلك سواء بمفردهم او كحليف له الكفة الراجحة. المسألة تتوقف على: كيف سيكون بوسع حكومة قادمة ان يكتب لها البقاء؟ لكن تذكروا: اذا كنا الآن، كمؤرخين، نعتقد، مثلاً، بأن كامينيف الذي وقف ضد مشروع ثورة اكتوبر كان على صواب في موقفه ضد لينين، فاننا في واقع الحال ننسى فرص امكانية ان يقنع كامينيف الحزب البلشفي في اكتوبر 1917. لكأننا نقول: اذا وجدنا انفسنا في وضع كهذا اليوم، لاتخذنا وجهة نظره. اننا نتحدث عن اللعبة الآن او في المستقبل، وليس عن اللعبة في 1917، التي لا يمكن تغيير نتيجتها. ومرة اخرى ماذا نقصد بالضبط، اذا عدنا الى الوراء، وقلنا انه كان من الافضل للبلاشفة لو لم يلزموا انفسهم باقامة حكومة من حزب واحد؟ هل نقترح مثلاً ان حكومة ائتلافية كان من شأنها ان تكون افضل في التعامل مع الوضع الميئوس منه في روسيا في تلك الأيام، او على المدى الاطول. وإذا كان هناك مدى اطول، فذاك بعيد الاحتمال. او ترانا نذهب الى القول على غرار غورباتشوف اننا ربما كنا نفضل لو ان ثورة شباط السابقة لثورة اكتوبر اخذت منحى آخر، وانه كان من الافضل لو ان الثورة تمخضت عن نظام ديموقراطي في روسيا، وهو ما تتفق عليه معظم الجماهير. لكن هذا لا يغير من طبيعة الاشياء، وهو ان ثورة اكتوبر جاءت بعد ثورة شباط، وان التاريخ لا يبنى على الاهواء والتصورات. لذلك يتعين علينا ان نترك التصورات ونعود الى واقع الحال في روسيا في أيام الثورة. ان الثورات الجماهيرية الكبرى التي تنطلق من اسفل - روسيا في 1917 ربما كانت اكبر مثال على ثورة كهذه في التاريخ - هي في اطار ما "ظاهرة طبيعية". انها اشبه بالزلزال والطوفانات الكبرى، لا سيما عندما يكون البناء الفوقي للدولة، والمؤسسات الوطنية، كما هو الحال في روسيا، قد تحلل بالفعل. كانت الى حد كبير مما يتعذر ضبطه... ثم علينا ان نكف عن التفكير في الثورة الروسية من وجهة نظر البلاشفة او اي نوايا او دوافع اخرى، او من وجهة الانتقادات الماركسية الاخرى لتجربتهم. في البدء لم يكن النظام الجديد يتمتع بقوة تذكر، وعلى وجه الخصوص لم تكن هناك قوة عسكرية يحسب لها حساب. ان الرصيد الحقيقي الوحيد الذي كان لدى الحكومة السوفياتية خارج بتروغراد وموسكو، هو قابليتها على التعبير عما كانت الجماهير الروسية تريد ان تسمعه. ان ما كان يهدف اليه لينين - وفي آخر المطاف شق لينين طريقه في الحزب - غير ذي شأن. لم يكن من المهم ان تكون لديه استراتيجية او تطلع ابعد من التفضيل بين القرارات التي تدعو الحاجة اليها من اجل البقاء على قيد الحياة يوماً بيوم، او تلك التي تفضي الى كارثة مباشرة. ولم يستطع النظام ان يراهن على استمرار بقائه الا في 1921. في هذا التاريخ امكن تحديد مسار مستقبل النظام الى حد ما، وكان بعيداً عن الصورة التي كان يحلم بها أي ماركسي بمن فيهم لينين نفسه. مع ذلك كيف قيض لثورة اكتوبر ان تبقى على قيد الحياة؟ أولاً، وأنا أتفق هنا كثيراً مع فيجس في كتابه "مأساة شعب"، ان البلاشفة انتصروا لأنهم حاربوا تحت العلم الاحمر، وباسم السوفيتيات، بهما كان الشعار مضللاً. ففي آخر المطاف، فضّل الفلاحون والعمال الروس، الحمر على البيض الذين كانوا سيصادرون الأراضي ويعيدون القيصر، وطبقة النبلاء، والبورجوازيين، كما كانوا يعتقدون. لقد وقفوا الى جانب الثورة التي كان يتطلع اليها معظم الروس. ولنتذكر ان الثورة الروسية كانت من صنع الجماهير، وقد تقرر مصيرها للسنوات العشر الأولى على يد الجماهير الروسية. لكن الستالينية وضعت حداً لذلك. ثانياً، بقي البلاشفة على قيد الحياة لأنهم كانوا القوة المؤلمة الوحيدة لحكومة قومية بعد القيصر. ففي 1917 لم يكن البديل ولا يمكن ان يكون روسيا ديموقراطية او ديكتاتورية، بل روسيا بين خيارين: اما البقاء او الفناء. وهنا كان البناء اللينيني المركزي للحزب البلشفي القائم على مبدأ الانضباط، اساسياً لبناء الدولة، على رغم انه جاء على حساب الحرية حتى بالمقارنة مع القيصرية. لكن: بدون البلاشفة، لا احد. وفي واقع الحال، ان من بين الانجازات القليلة التي حققتها الثورة الروسية التي لا ينكرها حتى اعداؤها، على نقيض الامبراطوريتين اللتين منيتا بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونعني بهما امبراطورية آل هبسبورغ والامبراطورية العثمانية، لم تتمزق روسيا الى شظايا. لقد انقذت كدولة متعددة القوميات وعلى بساط قارتين بفضل ثورة اكتوبر. ونحن قد نستهين بالنداء الذي وجهته روسيا السوفياتية الى الروس البعيدين عن السياسة وحتى الوطنيين اليمينيين، في اثناء الحرب الأهلية وبعدها، وإلا كيف نفسر عودة عدد قليل لكن مؤثر من المهاجرين الروس، من بين المدنيين والعسكريين، في فترة مشروع السنوات الخمس؟ رغم ان بعضهم ندم على ذلك. تقييم ستالين ثالثاً، بقي البلاشفة على قيد الحياة لأن شعار قضيتهم لم يكن روسيّاً محضاً. قد لا يكون دعم القوى الاجنبية لمختلف الجيوش البيض المتعادية مع بعضها البعض في الحرب الاهلية، ناشئاً عن حماس كبير، لأسباب مختلفة، لكنها بعد نهاية الحرب العظمى ادركت انها لم تكن قادرة على ارسال قوى كبيرة من عندها لمواصلة الحرب، على الأقل ضد نظام كان يعتبره جنودها ممثلاً لثورة العمال. ثم ان البلاشفة استعادوا السيطرة على مناطق عبر القفقاس بعد الحرب، بصفة خاصة لأن تركيا كانت تنظر اليهم كقوة ضد الامبرياليين البريطانيين والفرنسيين. وحتى المانيا المهزومة، الواثقة من حصانتها ضد البلشفية، كانت على استعداد للتفاهم معهم. وبعد ان دحض الجيش الاحمر العدوان البولوني في 1920 واكتسح الجيوش البولونية حتى وارسو، ارسل الجنرال الألماني سيكت انور باشا الى روسيا لمفاوضتها بشأن ما يشبه تقسيم بولندا في 1939 في المفاوضات السرية بين مولوتوف وربنتروب. لكن هزيمة الجيش الاحمر على ابواب وارسو وضعت حداً لهذا الطلب. ثم هناك العامل العالمي لثورة اكتوبر. فقد كان للثورة الروسية، حقاً، تاريخان متداخلان: تأثيرها على روسيا وتأثيرها على العالم. ولا ينبغي ان نخلط بين الاثنين. فبدون الثاني، لربما كان قليل او ندرة من المؤرخين المتخصصين قد عنوا بالثورة. فالثورة الروسية كانت حدثاً جباراً في القرن العشرين على الصعيد الروسي والعالمي على حد سواء. اما ما الذي قدمته الى الشعوب الروسية؟ فهو انها أوصلت روسيا الى ذروة من قوتها ومجدها على الصعيد العالمي، أبعد بكثير مما تحقق في عهد القياصرة. وغني عن القول ان موقع ستالين في تاريخ روسيا كان كموقع بطرس الكبير في تاريخها. والثورة الروسية عصرنت الكثير من بلد متخلف، لكن على الرغم من ان انجازاتها كانت هائلة - ليس اقلها القدرة على ايقاع الهزيمة بألمانيا في الحرب العالمية الثانية - فان ثمنها كان كبيراً بالنسبة لحقوق الانسان، واقتصادها بلغ طريقاً مسدوداً، وواجه نظامها السياسي صعوبات جمة. انما ينبغي الاعتراف ايضاً بأن معظم سكان الاتحاد السوفياتي، ممن يملكون ذاكرة، يجدون المرحلة السوفياتية السابقة افضل بكثير مما يعانونه الآن وما سيمرّون فيه لأمد طويل. لكن من المبكر الآن وضع تقويم تاريخي صحيح للمسألة. ويتعين علينا ان ندع ذوي النزعات الاشتراكية والناس الذين مروا بالتجربة الاشتراكية يتوصلون الى قناعاتهم بأنفسهم حول تأثير ثورة اكتوبر على تاريخهم. اما بالنسبة لبقية انحاء العالم، فلم يقفوا على حقيقتها الا بصورة غير مباشرة: كقوة للتحرير في البلدان المستعمرة بفتح الميم سابقاً، وفي اوروبا كلها، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، وكعدو اساسي للولايات المتحدة وفي واقع الحال لكل الانظمة المحافظة والرأسمالية طوال معظم سنوات هذا القرن باستثناء ما بين 1933 - 1945، وكنظام مقيت جداً وعن حق لدى ذوي النزعات الليبرالية والبرلمانيين الديموقراطيين، لكن في الوقت نفسه معترف به من قبل اليسار في العالم الصناعي منذ الثلاثينات كشيء أرعب الاغنياء وكان عنصر الهام للفقراء. على ان المفارقة الرهيبة التي تنطوي عليها المرحلة السوفياتية تكمن في ان ستالين الذي عرفته الشعوب السوفياتية، وستالين الذي نُظر اليه كقوة محررة في الخارج، كانا شيئاً واحداً. وانه كان محرراً للبعض على الأقل في اطار جزئي لأنه كان طاغية على الآخرين. فهل يستطيع المؤرخون، مثلا، ان يتوصلوا الى اجماع حول شخص كهذا، وظاهرة كهذه؟ لا اعتقد انهم يستطيعون، في المستقبل المنظور. وكالثورة الفرنسية، سيبقى الحكم على الثورة الروسية متبايناً