الحرية ليست كلها سعادة وهناء وأملاً عريضاً بمستقبل أفضل. فثمة فيها ما يُفزع. وثمة فيها ما يستحق أن يقض المضاجع. وثمة فيها ما يفترض بيقظة الضمير أن تجعل منها سبباً للعذاب أيضاً. الليبيون أحرار اليوم. وبطبيعة الحال، فإن هذه الحرية نسبية فقط. فهم أحرار قياساً بسنوات العبودية التي كانوا يعيشونها في ظل قيادة العقيد معمر القذافي. وإذا اتفقنا على ان الحرية ليست شيئاً يُستحصل دفعة واحدة، فقد نتفق على إنها كائن ينمو. وقد نتفق على إن حريتنا لا تزال طفلة، وإن الوقت لا يزال مبكراً وعلينا أن نتعلم المشي على وقع خطواتها الأولى. كما إن الوقت لا يزال مبكراً أن تتعلم لغتنا الاجتماعية، تقاليدنا ومرجعياتنا الخاصة. فالحرية ليست شيئاً نستنسخه من الخارج لنطبقه على أرض غريبة. انها معترك تربية وتعليم أيضاً. ومن الحكمة القول إن الليبيين لا يزالون في أول الطريق، وإن حريتهم نفسها لا تزال في أول الطريق أيضاً. إذ إنها لا تزال مجرد تصورات وأمنيات وتطلعات عريضة. نعم، الكثير منها مفيد وبنّاء، إلا انها لا تزال حرية تتحدث لغة غير لغة الواقع بعد. أنا نفسي لا أعرف، عندما أتحدث عن الحرية، ما إذا كنت اتحدث عنها بتلك اللغة التي تعلمتها في المجتمع البريطاني، أو ما إذا كانت لغتي ومعارفي وتطلعاتي سوف تُفهم في ليبيا كما أتمنى أن تُفهم. ويغمرني الشك أحياناً في إني قد أجد نفسي غريبة في مجتمع سيطرت عليه السطحية الفكرية التي كان يفرضها العقيد القذافي وجيش الأغبياء والحمقى ممن كانوا «يؤمنون» ب «فكره» الضحل. كما تغمرني الحيرة في ان مجتمعي الذي سقاني حب هذه البلاد وحب أهلها، يمكنه أن يتفهم الشروط التي لا مفر من توفرها لكل حرية. ولا أدري إن كنا سنجد أنفسنا يوماً قادرين على أن نكتشف إننا بشر، ويجب أن نكون متساوين، وأن أحداً لا يملك أن يفرض على غيره رأياً، وان القاسم المشترك بيننا يجب أن يكون خدمة هذه البلاد وأهلها قبل أن نبحث لأنفسنا عن منافع وامتيازات خاصة. ولكن هناك ما يجعلني أشعر بالفزع حتى وأنا اتحدث عن تطلعاتي لهذه الحرية. ما أريد أن أصل اليه ببساطة، هو اننا إذا كنا نعيش في القسط الأول من الحرية، فان هذا القسط ما كان ليتم إلا بفضل آلام وتضحيات الليبيين. لقد ترك هذا المعترك خلفه عشرات الآلاف من الشهداء. وهؤلاء سيكون لهم ولذويهم حق علينا، وعلى كل منعطف نمارس فيه الحرية. كما ترك هذا المعترك عشرات الآلاف من الجرحى الذين، ونحن نبتهج بما كسبناه، يعانون من الآلام ما يفترض أن يجعلنا نشعر بالخجل من حريتنا إذا لم تقف في صفهم وإذا لم تخفف عنهم آلامهم. لقد تركنا شهداء كثراً وراءنا. اما هؤلاء الجرحى، فانهم شهداء - أحياء بيننا. وصرخة الحرية التي نصرخها اليوم في وجه الطغيان سوف تظل صرخة ناقصة ما لم نقف أمام عذابات هؤلاء الجرحى وقفة خشوع وامتنان وخجل. لقد رأيت الكثير منهم في المشافي، ورأيت معاناتهم، ولن أتردد اليوم من الكشف عن اني سألت نفسي عما إذا كنا نستحق عناء المعترك الذي خاضه هؤلاء الرجال والشبان الأبطال، وما إذا كنا سنكون جديرين بآلامهم وخساراتهم. وأعرف ان الليبيين يستحقون كل تضحية. وأعلم إن حريتهم تستحق أن تُفتدى بكل شيء. ولكني أعلم ايضاً إنها سوف تكون حرية ناقصة إذا لم ترد لهؤلاء الضحايا ما يستحقون أن يُرد لهم من المؤازرة والعرفان بالجميل. ما اقوله لنفسي هو انه من العار أن نتركهم يتألمون. وينتابني شعور جارح يقول إنه لا قيمة للحرية التي نعيشها اليوم، أو للحرية التي سنعيشها غداً، إذا لم نقف الى جانب هؤلاء الضحايا. وأود لو يسمح، بالقول انه يجب على كل الذين ينعمون بالحرية، وعلى كل الذين ينعمون بنعم الحياة الأخرى، من دون آلام، أن يتذكروا ان هناك الآلاف من الجرحى الذين لا يستطعيون التلذذ بالحرية لأن ثمنها كان، بالنسبة لبعضهم، يداً أو قدماً مقطوعة، أو عيناً مفقودة، أو جرحاً غائراً في البدن. وهم لا يزالون ينتظرون العون لتخفيف آلامهم. وأكاد أقول انه لا خير في حريتنا إذا لم يكن فيها خير لهم. كنت أتمنى لو أني لم أجد نفسي أقف أمام أنواع مختلفة من هذه المعاناة. وأشعر بأني كنت سأتلذذ بحريتي بطريقة تخلو من أعباء المسؤولية ومشاعر الذنب. لكن حظي قادني اليهم، وعزز في نفسي الشعور بأن ليبيا الحرة لن تكون حرة حقاً، ما لم تبذل كل ما في وسعها من أجل أن تفتح أمام هؤلاء الضحايا أبواب الحياة من جديد، ومن أجل أن تقول لهم: «شكراً. نحن أحرار بفضلكم». «الحرية مكسب لا يعادله ثمن». كنت أردد بيني وبين نفسي كلاماً من هذا القبيل ولكني لم أفهم معناه من قبل كما أفهمه الآن. الحرية مكسب لا يعادله ثمن، لأنه لا يُستحصل إلا بالكثير من الآلام والكثير من التضحيات. وعندما تنظر الى عذابات الجرحى، ستعرف أي ثمن هو ذلك الثمن!