بات من المسلَّم به في الواقع العربي غياب معظم أشكال الحرية. هذا الغياب أصبح مع ازدياد التسلط الحكومي من الخطورة بحيث بات يهدد بانهيار الوضع العربي ككل. فالأمم لا تسقط في الأَسر إلا عندما تسقط في داخلها أولاً. من السهل بالطبع أن نلقي بمسؤولية غياب الحرية على عاتق الأنظمة المستبدة. ولكن جانباً مهماً من هذه المسؤولية يقع أيضاً على عاتق المثقفين العرب. وعلى رغم الجدل الحاد الذي لا يزال قائماً، حيث تتهم السلطة المثقفين بالانتهازية أو السلبية، فيما يتهم المثقفون السلطة بالقمع والنفاق السياسي، الا أن هذا لا يعفي المثقفين من مسؤوليتهم ازاء تفاقم أزمة الحريات، وغياب الديموقراطية على نحو خاص. إذ يُفترض أنهم الطليعة... الطليعة الواعية والمكافحة التي تشق الطريق أمام الجماهير من أجل المشاركة الفعلية في صنع قرارها ومستقبلها. تتمثل مسؤولية المثقفين وأزمتهم في الوقت نفسه في عدة ظواهر. وأولى هذه الظواهر، ولعلها أهمها، ظاهرة "الغربة"" ونعني بها شعور المثقفين، أو جانب كبير منهم، بالغربة في أوطانهم، وبعزلتهم وعدم قدرتهم على ممارسة أي تأثير على مجريات الأمور العامة. ولعل تفشي هذه الظاهرة يعود بدرجة كبيرة الى الخوف من الإرهاب السلطوي، وبالتالي التقوقع والانكفاء على الذات والانغماس بمشاغل الحياة اليومية. من جانب آخر لا بد أن نلقي جانباً من المسؤولية على عاتق المثقفين أنفسهم ممن يتجلَّى سلوك بعضهم بالسلبية المطلقة. إذ ينفر هؤلاء من ممارسة أي نشاط فكري أو سياسي بحجة أن الظروف اللاديموقراطية في معظم أرجاء الوطن العربي لا تسمح بممارسة مثل هذا النشاط بحرية وعلى نحو سليم. ويؤمن بعضهم عن يقين أن أية جهود في هذا الصدد هي جهود عبثية لا طائل تحتها. وفيما ينظر بعضهم الى السياسة نظرة ترفع معتبراً اياها "أم الشرور" ومنافية للأخلاق، يتوجس بعضهم الآخر منها توجساً فرضياً، ويعتبرها خطراً على سلامته. ويراها فريق ثالث، عن جهل أو خوف، أنها وقف على الحكام وعلى فئة معينة من الناس. ويدعي فريق رابع أن عمله الأكاديمي أو التخصصي طبيب، مهندس، محام... الخ لا يُتيح له أي وقت للاهتمام بالسياسة! ويعجب المرء الى حد الذهول حقاً من موقف أمثال هؤلاء! إذاً كيف يمكن لمثل هذا النمط من المثقفين أن ينسلخ إلى هذا الحد عن قضايا أمته، وعن هموم الوطن والمواطن؟! وكيف يصل به الأمر الى حد التباهي بأنه لا يقرأ حتى جريدة! ويعترف فريق خامس أن شاغل الحياة اليومية وتدبير الشؤون الحياتية يلهيهم عما يجري في أوطانهم، وعن القراءة والمتابعة أو حتى سماع الأخبار. ويدافع هؤلاء عن أنفسهم، معترفين بشيء من التقصير، بأن سياط غلاء المعيشة والتضخم وضغوط نمط الحياة الاستهلاكي تجلدهم يومياً بقسوة، وبأن مواردهم الشهرية من العمل الحكومي أو شبه الحكومي أو حتى في مجال العمل الحر، لم تعد كافية لمواجهة متطلبات الحياة المتصاعدة. ويقول بعضهم متهكماً إن ممارسة أي شكل من أشكال النشاط الاجتماعي أو السياسي أو الفكري بات نوعاً من الترف الذي لا يستطيع أن يمارسه أو حتى أن يفكر فيه! لعلنا قد نجد بعض العذر لهذا الفريق... فالمثقف الشريف الذي لا يسرق ولا يقبل الرشوة، والمُبعد عن "جنة" السلطة وأعطياتها مضطر بالفعل لأن يعمل ليل نهار لتدبير قوته ومواجهة ضغوط الحياة المتفاقمة يوماً بعد يوم. ان كنا نجد بعض العذر لهؤلاء، وهم يشكلون الشريحة الأكبر من المثقفين فإننا لا نجد العذر لمن انغمسوا حتى الأذنين في نمط الحياة الاستهلاكي حتى أعماهم جمع المال ومجاراة الطبقات الأغنى والأعلى مادياً عن جميع واجباتهم ومسؤولياتهم كمثقفين يفترض أنهم الطليعة الداعية التي تحارب الفساد. بعد ظاهرة الانكفاء على الذات لأسباب ذكرت بعضها تأتي ظاهرة ثالثة مناقضة لما قبلها، وهي ظاهرة "الهروب الى الأمام"، أي هروب فئة من المثقفين، ربما تحت ضغوط معينة، الى أحضان السلطة! ومن نافلة القول إنهم سرعان ما يتحولون الى أدوات طيعة وأبواق للدفاع عن النظام... يتحولون الى "صوت سيده"! لعل هذه الظاهرة تمثل سقوط المثقف... إذ أن أخطر دور يمكن أن يؤديه المثقف هو أن يتحول الى "بوق"... يبرر للسلطة كل أخطائها وممارساتها القمعية، وكل فسادها واختلاساتها لثروات الوطن والمواطن، ويفلسف لها هذه الممارسات بكلام أجوف وشعارات زائفة. هذا "الدور" بدأ يستشري في السنوات الأخيرة على مدى معظم أرجاء الوطن العربي ويأخذ أبعاداً خطيرة ومدمرة تكاد تقضي على أية آمال بوطن حر مستقل تحكمه إرادة الشعب.. إذا كان فريق كبير من المثقفين العرب قد آثر الانكفاء بسبب سلبية ذاتية، أو بسبب خشيته من السلطة وخوفه من ارهابها، وكان فريق آخر قد طحنته متطلبات الحياة بحيث لم يعد يستطيع أن يقرأ جريدة!... وسقط فريق ثالث في شبال الاستهلاك، أو اغراءات السلطة، على تفاهة هذه الإغراءات أحياناً... فمن يتبقى من المثقفين العرب؟! وكيف تستطيع هذه البقية الباقية أن تواجه القمع السلطوي والتهديد والترهيب؟ وكيف تواجه بدورها متطلبات الحياة اليومية وضغوطها؟! وكيف والى متى يمكن أن تصمد أمام اغراءات "الاستهلاك" المتزايدة أو اغراءات السلطة؟ باختصار ماذا عن المثقف النزيه والشريف الذي ما يزال يحترم ثقافته ويحترم قلمه؟ كيف يستطيع هذا المثقف الصامد أن يشارك في معترك الحياة السياسية في بلاده، وأن يمارس حرية الفكر أو حرية الرأي؟! من الواضح أن المثقف العربي، فضلاً عن الانسان العربي بصورة أعم، يعاني من حال حرمان من كثير من حقوقه الأساسية مثل حرية الرأي والتعبير والنقد. وهو مغلول عن المشاركة في تقرير مصيره ومصير بلده، ومكبل بقيود الخوف والقهر والحاجة. وهو محروم فوق ذلك، في كثير من الأقطار العربية من المعلومات التي تتعلق بشؤون بلده. فهو لا يقرأ الا ما تسمح به أجهزة الرقابة الرسمية. إنه ليس محروماً من ابداء الرأي فحسب بل محروم حتى من تكوينه. إنه يتلقى اعلاماً يمارس التعتيم والتضليل والديماغوجيا... يمارس الكذب الصريح حتى في نشرات الطقس أحياناً! ويضاعف من هذا الحرمان عدم قدرة هذا المثقف في معظم الأحيان على شراء الصحف والمجلات غير المحلية واقتناء الكتب الفكرية والسياسية المهمة بسبب نظام الرقابة العربي الصارم من جهة، وارتفاع أسعار المطبوعات بصورة ملحوظة من جهة ثانية. ومن سخرية القدر أن المثقف المطحون مادياً هو وحده الذي يقرأ! في اطار هذا الحصار والتعتيم، وفي ظل الانحسار العام الذي يسود المنطقة العربية، تزداد سلبية المثقفين وانصرافهم شبه الكلي عن القضايا العامة واستغراقهم الواضح في ملاحقة مشكلات الحياة اليومية. وهذا ما يهمّش بالتالي دروهم ويجعلهم خارج دائرة التأثير. في هذا السياق تبرز حال انفصام جلية واضحة بين السلطة الحاكمة من جهة والمثقفين الجادين بصورة خاصة والجماهير بصورة أعم من جهة ثانية. فهذه السلطة في معظم أقطار العالم العربي تكاد لا تقيم وزناً للجماهير على رغم أنها تتحدث بأسمها. وهي في علاقاتها مع المثقفين تنظر اليهم بكثير من الاستخفاف وتعاملهم على أنهم موظفون لديها. وهي لا تخشى عملياً إلا من نموذج من المثقفين... نموذج المثقف الشريف الذي لا يزال على رغم أغلال الخوف يقاوم ويعاند. وهي في تضييقها عليه، والعصا خلف ظهرها، تتوقع أن تتلاشى مقاومته وعناده تدريجياً فيسقط في شراك الاستهلاك أو السلبية، أو يرضى بفتات موائدها، أو ينكفئ على ذاته قهراً وخوفاً. فإذا لم يحدث أي من هذه الاحتمالات فلا بأس اذاً، إذا رفع صوته، من استخدام العصا وليس التلويح بها فحسب! ان جانباً كبيراً من المسؤولية عن بروز حال الانفصام هذه ... حال فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والطليعة المثقفة بشكل خاص يقع على عاتق الأنظمة العربية على اختلاف أشكالها. فهذه الأنظمة من خلال ممارساتها اللاديموقراطية، ومن خلال أنانيتها الشديدة، وعدم قدرتها على تحمل أي نقد قد أوجدت حال الانفصام بينها وبين الفئة الوحيدة المهيئة والقادرة على ممارسة النقد والتصحيح بطريقة علمية بناءة. لقد عمدت هذه الأنظمة، في غالبيتها، الى اخماد صوت الرأي الآخر... الى تحريم حرية التعبير والانتقاد. ووصلت شدة التحريم لدى بعض السلطات العربية الى حد تصفية أصحاب الرأي الآخر جسدياً أو القائهم في السجون ردحاً من الزمن. ولعل المثقف يتساءل مذهولاً: لماذا ينبغي أن تكون قناعات السلطة وطروحاتها هي وحدها الصحيحة وما عداها هو الخطأ بل الخطيئة؟! كيف لا تخطئ السلطة؟! ولماذا لا تسمح معظم الأنظمة العربية بحرية النقد الجريء البناء؟! أليس الرأي الآخر مفيداً حتى للسلطة ذاتها أحياناً؟! أن اختلال العلاقة بين السلطة العربية وجماهيرها الواعية يأتي في الغالب من رفض هذه السلطة لدور المثقفين في الممارسة السياسية الإيجابية... في الممارسة الديموقراطية، بسبب استخفافها بهذه الفئة الواعية، أو خشيتها من أن تكون ذات خيارات سياسية مغايرة، إذا ما أُتيح لها أن تمارس حقها الطبيعي في حرية الرأي والتعبير والمعارضة. وتتضح لنا أزمة الحرية أكثر ما تتضح في اشكالية العلاقة بين المثقفين والسلطة. فأحد طرفي هذه العلاقة يتشبث بالمثل ويدافع عما يعتقد أنه الحقيقة، أو يرى أن مهمته الأساسية أن ينشر وعياً، ويدفع الحياة باتجاه الحركة والتحول... والطرف الآخر على النقيض، يريد أن يتشبث بالوضع على ما هو عليه ويمنع الرأي المعارض ويلغي الآخر، ويدافع عما يراه ضرورياً لبقاء كيانه ولو أدى به ذلك على استعمال القهر والقمع. ويرى المفكر العربي عبدالكريم اليافي أن أهم أسباب الأزمة الحاضرة هي هذا التغييب القسري للثقافة والجماهير عن المشاركة في صنع المصير. يبدأ هذا التغييب بمصادرة الحريات الأساسية للجماهير، وتهميش دور الثقافة، وينتهي بالانتهاك الفاضح لحقوق الإنسان. والحل أو الحلول المقترحة لن تخرج في إطارها العام عن ضرورة ممارسة الديموقراطية. والسلطة العربية مدعوة اليوم الى محاورة المثقفين... الى "تجسير"، الفجوة العميقة بينها وبينهم، والى اتخاذ خطوات ديموقراطية حقيقية. لقد خطت بعض الأنظمة العربية خطوات خجولة ومتواضعة على درب تصحيح هذه العلاقة. الا أنها لا تزال غير كافية. لا بد من هدم جدران عدم الثقة والخوف، واقامة علاقة سليمة أساسها الثقة... علاقة تتيح للطليعة المثقفة، الشريفة والنزيهة، دورها المسؤول في ممارسة حرية النقد والتعبير. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.