حرية التعبير هي تلك الحرية التي نمتلكها أولاً في نقد السلطات أكانت هذه السلطات حكومة قوية ومتنفذة أو برلماناً لديه سلطات تنفيذية واسعة أو قرارات سلطة قضائية أخطأت في صنع قرارها. والجوهر الثاني في حرية التعبير هي تلك التي يمتلكها كاتب او مسرحي او سينمائي او مثقفون او فئات او جماعات في قول رأيها بحرية وبلا موانع. التحدي الأكبر الذي يواجه الحريات في بلاد العرب مرتبط أولاً بالموقف من نقد أكثر السلطات قوة لما لهذه المواقع من تأثير على حياة المواطن من مهده إلى لحده ومن حاضره إلى مستقبله. إن خطأ الفرد يؤثر بحدود الفرد، لكن خطأ السلطة وقراراتها بحق السياسي والادبي والفني والبحثي يمس الملايين. من دون المقدرة على نقد هذه السلطات بحرية ومن دون الحد من قدرة السلطات على معاقبة المواطن فإن مستقبل العالم العربي لن يكون سوى تكرار لماضيه المليء بالتردي والقمع. ان حماية روح المجتمع العربي ومستقبل إزدهار أفراده يتطلب تأكيد حرية التعبير السياسي. لهذا فمن دون حل الاشكال السياسي الذي يجعل فئة تتحكم بالسلطات مدى الدهر وفئة أخرى تبقى في المعارضة أيضا مدى الدهر لن تتقدم الحريات في بلادنا ولن تتطور لا المعارضة ولا الحكومة، بل سيبقى كل شيء محل جدل وإختناق. في الدول العربية قبل الربيع العربي، وباستثناءات قليلة نجدها في الكويت ولبنان، سادت الفرضية الثقافية التالية: نتنازل عن حرياتنا والكثير من حقوقنا لقاء الأمن والاستقرار. لهذا اختبر المواطن العربي في العقود الماضية نزعتين متناقضتين: حاجته من جهة الى حكومة وسلطة تقف فوقه وتنظم أمور مجتمعه، وحاجته من جهة أخرى الى الحرية في التعبير عن نفسه وقضاياه. ولقد نتج عن تنازل المواطن عن حقوقه على مدى العقود، خوفاً من الفوضى، خسارته لتطوره السياسي ومنعه من النقد وسلب حرياته الاصيلة. وقد نجحت الدول العربية في حشد التأييد لهذه الفرضية التي وصلت الى طريق مسدود ومقفر قبل عام 2010. لقد أثبتت التجربة العربية أن تسليم حريات المواطنين لصالح الدولة قد يؤدي الى تقدم موقت، لكنه على المدى المتوسط والبعيد يؤدي الى تردي التنمية، وسوء التخطيط، وتبديد الأموال، وإنتشار الفساد والإضمحلال الوطني. ويمكن قراءة هذه المرحلة من التجربة العربية بصفتها المحاولة الأهم والأجرأ لإستعادة حقوق طبيعية انترعت من مجتمع المواطنين من قبل أخطبوط السلطة والدولة الحديثة. لا زالت المقولة بأن الكثير من السلطة يؤدي للكثير من الفساد صالحة لهذا الزمن. فالكثير من السلطة من دون مراقبة او مساءلة والتي تمسك كل السلطات هي أصل الداء. والاسوأ في المعادلة العربية غير الديموقراطية أن الدولة تمتلك المقدرة على الإعتقال والتوقيف والضغط والتهميش والمنع والسجن وإستخدام الجيش والامن وفرض الأحكام وتغيير القوانين، وبامكانها إقتناص الأخطاء ومصادرة السلطة القضائية وإضعافها وإفقادها لاتزانها. وفي وضع كهذا يقف مجتمع المواطنين عاجزاً أمام هيمنة الدولة. في معظم الحالات لا يستطيع المواطن وحده خوض غمار حرية التعبير، ولا يستطيع الدفاع عن سجين رأي كما حصل مع آلاف الامثلة العربية، ففي هذه المواجهة يطحن المواطن وتنتشر حالة من الخوف، ويصبح الإنتقاد خيانة والاتهام بالولاء سلاحاً. وتكشف لنا الممارسات كم يتناقض خطاب الدولة عن الشعب مع ممارساتها. في معظم الحالات تحتقر السلطات العربية الضعف في شعوبها، وفي الوقت نفسه تثور عندما تعبّر الشعوب عن قوتها. الحالة العربية مصابة بإنفصام كبير. في لحظة تاريخية بامكان قوة الدولة المنفصلة عن الواقع أن تصاب بالجنون والعصبية وبامكانها ان تتخيل الشعب وكأنه عصابة متآمرين فتبرر ما لا يبرر. وفي العالم العربي جيل جديد وحركات سياسية وشبابية خرجت للعلن. هذه الحركات لن تختفي كما أنها ستزداد زخماً وستنتشر بحكم تراكم التجربة، وهي حركات تؤمن بالحريات لأنها ولدت أساساً في ظل مواجهة من أجل الحريات والحقوق على شبكات التواصل الإجتماعي وفي الميادين والأزقة. إن تطور وإرتقاء هذه الحركات الشبابية مرتبط بالحريات، بينما ستؤدي محاولات التحكم بها ومنعها من التعبير عن نفسها إلى تعميق تصميمها على تطوير برامجها وأهدافها وثورتها. هذه الحراكات قد تأخذ أشكالاً جديدة، وقد ترتفع في الوتيرة أو تخبو، لكنها مستمرة وستسهم في تغير المجتمعات العربية وإدخالها الحيز السياسي والحقوقي كما لم تفعل أي حركة في تاريخنا الحديث. لقد أصبحت الحريات مرتبطة بالسعي الى البحث عن مصادر جديدة لتطوير الحياة السياسية العربية، وهذا يتضمن تطوير مشروع الدولة المدنية بصفتها دولة القانون والحريات والحقوق والعدالة ودولة التمثيل السياسي والتدوال على السلطة ودولة كل المواطنين والتنافس الشريف فيما بينهم. إن حرية التعبير لا تعني حتماً الموافقة على الخطاب العنصري تجاه عرق أو فئة او جماعة او طائفة او قبيلة ضمن المجتمع. والأخطر أن يقترن الخطاب العنصري في المجتمع مع الإستضعاف والتمييز المؤسسي والقانوني ضد فئات منه. والاسوأ ان يتبين ان للسلطة او جناح منها علاقة بالخطاب العنصري مما يسهم في أزمة أعمق وتفتيت أوسع للمجتمع في العلاقة مع النظام السياسي. الخطاب العنصري إنتهاك لحقوق الانسان، لكنه ينتهي الى توحيد المجتمع والقطاعات الأكثر تهميشاً لصالح التغيير. في هذه الحالة تبرز أزمة الشرعية بأجلى صورها. لقد تطورت حرية التعبير في التجربة الإنسانية في ظل السماح للقوى الضعيفة في المجتمع (الأفراد، المرأة، المهمشين، الفقراء، المستثنيين، الفئات غير الممثلة) بتوجيه نقدها السلمي للقوى الأكثر قوة من دون أن يؤدي ذلك الى عقوبات وإتهامات وفتك. هذا أساس تطور التجارب وأمر رئيسي في قياس الديموقراطية. الهدف الأهم لحرية التعبير هو جعل القوى المهمشة في المجتمع قادرة على إسماع صوتها. السلطة تؤثر على تفكير من يشغلها، لأنها تصوغ نظرته لذاته ولقوته وللعالم المحيط به ولمعارضيه. إن من ينظر من أعلى الجبل بالكاد يرى القاع، ومن يجلس في القاع يشعر بالغابات والأشجار التي تحيط به والمياه والصخور التي تتدحرج عليه. كما أن من ينظر من أعلى الجبل قلما تعجبه حالة الحريات وكثرة النقد في مجتمعه. لهذا تطورت مبادئ التداول السلمي على السلطة التي بالكاد بدأ العالم العربي خطواته الاولى تجاهها. من خلال التداول السلمي يمكن لمن يكون في قاع الجيل أن يختبر قمته لفترة من الزمن ويمكن لمن كان في قمته أن يختبر القاع لفترة أخرى، مما يعطيه المجال ليعيد النظر ويطور القدرات ويحتك بالقاعدة. وكي يتم هذا بصورة سلمية لا بد من ضمانات الحرية التي يجب حمايتها دستورياً وقانونياً. إن الحريات التي تنتزع اليوم في الحراك العربي الأوسع هي المدخل ونافذة المستقبل، لكن التداول على السلطات وفصلها هو المسار الذي سيؤمن حريات أكثر ثباتاً وعمقاً. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت shafeeqghabra@ تويتر