اعتدنا فهم "الوطنية" بمعناها السياسي العام، أي ما يترتب على الشعور الصادق بالانتماء للوطن من مسؤولية وتبعات من اجل حماية البلد - الوطن، وصيانة سيادته، ومعارضة العدوان الخارجي عليه او احتلاله. فالوطنية هنا هي بالنسبة الى الوطن مقابل اعدائه الخارجيين محتلين، او معتدين، او متآمرين طامعين. وتتباين نسب زخم "الوطنية" وقوتها ومداها من شعب الى آخر ومن حالة الى اخرى. فعندما يتعرض الوطن الى عدوان خارجي، يتأجج الشعور الوطني حتى لدى البسطاء غير المسيّسين، ويكون الكثيرون منهم على استعداد طوعي غير ارغامي للتضحية دفاعاً عن هذا الوطن. لكن هذا الوطن نفسه يكون من دون معنى بلا شعبه، فهو ارض وحدود وسيادة، وهو مواطنون وشعب من فئات وطبقات، سواء كبر العدد أم صغر. وقد أدت الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية الى تعميق مفهوم الوطنية وتوسيعه بربطه عدا الدفاع عن الوطن - الارض بالتزام مصالح الاكثرية الشعبية، سواء في المعيشة اليومية والازدهار الاقتصادي ام في العدالة الاجتماعية، ناهيكم عن اشباع حقوق المواطن - الفرد، وتربيته بروح المواطنية حقوقاً وواجبات وتمكينه من ممارسة ذلك. أي: "ان الوطنية ديموقراطية"، والديموقراطية هنا تلخص ما تعنيه وتمثله مصالح الشعب والمواطن من حقوق اجتماعية وسياسية معاً، اي العدالة الاجتماعية، ونظام المؤسسات التمثيلية والفرز بين السلطات واحترام سيادة القانون وضمان الحقوق الاولية للانسان. ويترتّب على ذلك عدم جواز تعكّز الحاكم على وطنيّته هو مهما كانت صادقة ونزيهة لاضطهاد شعبه او التساهل مع الفساد الاداري والظلم الاجتماعي. وان الوطن الذي تقيد فيه حقوق اكثريته، وحرياتهم، ويتمّ قهرهم، هو غير وطن يمارس فيه المواطنون حقوقهم… وان النظام "الوطني المعادي للاستعمار"، على حدّ اوصافنا امس تضعف طاقاته الوطنية وقد تتلاشى عندما يضطهد شعبه، فالظلم المتواصل يضعف الشعور الوطني العام. ولقد واجهت اقطارنا العربية وكما في بلدان نامية اخرى نزعات واتجاهات وممارسات تشوه معنى الوطنية او تقلصه الى ابعد الحدود. فحتى لو كانت هناك حرب ضد غزو خارجي، وضرورة استئثنائية لتعطيل بعض الحريات موقتاً كاعلان الاحكام العرفية، فان اي ظرف خاص واستثنائي، لا يبرر التعسف والقمع الشاملين، ومن ذلك التعذيب، والاعتقالات الاعتباطية. فضلاً عن ان الاحوال يجب ان تتبدل جذرياً بعد انتهاء الغزو الخارجي. لكن ما حدث هو ان العديد من أنظمتنا "الوطنية المستقلة" واصلت ممارسة سياسات القمع، وتغييب الجماهير والمجتمع المدني، ورفض الموقف الآخر… وبحجة ان الديموقراطية الغربية لا تستورد، وان لكل بلد ظروفه وتقاليده وتاريخه، جرى ويجري تدمير كل القوانين والحقوق، ويتحول القمع الشمولي الى الحالة السائدة. وفي حالات اخرى، بُرِّر تغييب الديموقراطية السياسية وهضم حقوق الانسان السياسية بحجة تحقيق العدالة الاجتماعية، وما تتطلبه من "قمع اعداء الشعب". اما اعداء الشعب فيجري تمطيط دائترهم لتشمل كل معارض سياسي وطني له موقف ورأي مستقلان، فيعتبر "عدواً للثورة" لا بد من قمعه إن لم يكن تصفيته. ان الحاكم هنا يحوّل مفهوم الانتماء للوطن والشعب الى انتماء للحاكم حصراً، وتتحول الوطنية الى ولاء مطلق للحكم، والعدالة الاجتماعية الى استجداء من اسفل، والى "مكرمة" ممن هو فوق!! إن الحكام، ولا سيما الحكام الشموليين "المؤدلجين" يبيحون لانفسهم قمع المظاهرات الشعبية السلمية بالقوة، ومنع الاضرابات العمالية العادلة، او اغراقها بالدماء لكنهم يعتبرون "جريمة" و"خيانة" ان يعبّر السياسي الوطني المعارض لهذه الممارسات عن رأيه وان يمارس حقه الديموقراطي في الاحتجاج والتظاهر السلمي. وقد يعتقل هذا المعارض او ذاك وقد يعذب حتى الموت في العراق مثلاً او قد يعتقل بلا محاكمة عقدين من الزمن، حالة رياض الترك كمثل، دون ان ترى الحكومات المعنية انها تخالف دساتير البلد وقوانينه والحقوق الاولية للانسان، وبالتالي فانها تنتهك حقوق المواطنة. فالوطن هو لكل المواطنين وليس لفئة معينة او طائفة سياسية دون غيرها، وان ما يجب ان يحاسب عليه اي معارض هو ان يغلّب خلافه مع السلطة على المصالح الوطنية العليا، كأن ينضم الى الغازي الاجنبي في حالة الحرب او الى المخطط التآمري الخارجي للتدخل في شؤون الوطن "وتفصيل" اوضاعه وفق المصالح والمقاييس المعادية. وليست الانظمة بالمسؤولة وحدها وانما كل القوى السياسية واكثر المثقفين المسيّسين، وان كان مسؤولية الانظمة وقياداتها حاسمة، بالتأكيد. والمتابع للساحة السياسية العربية، ممارسةً و"تنظيراً" وتحليلاً يصطدم بمنطق انتقائي عام، وبسيادة المغالطة السفسطة كطريقة سجال. ومن ذلك مثلاً تبرير الارهاب الاسلاموي الدموي بالارهاب الاميركي او بالقمع الحكومي او التعكّز على ثغرات الديموقراطية الغربية للتهرّب من الاستحقاقات الديموقراطية محلياً، او مهاجمة نظام ما لقمعه الشمولي والتشبث بأردان نظام مماثل ومغازلته، او اجراء مقارنات فاسدة بين حالات متعارضة لتبرير مسلك بعض الحكّام واستبدادهم ومغامراتهم الكارثية. وكم اصطدم شخصياً بمثقفين عرب تتحدث لهم عن مأساة شعبنا جوعاً ومرضاً، فيحدثونك عن احوال شعب السودان مثلاً مع ان العراق بلد غني اصلاً، وان المقارنة يجب ان تتم بين احواله اليوم واحواله بالامس، وبالتالي فان الحصار الاميركي ليس وحده المسؤول عن هذا المآل، وانما تخبّط السياسات وتغييب الجماهير، والقهر. ومن اساليب الانتقائية السياسية التي ندين عليها السياسات الاميركية الخارجية ولكن نستعملها نحن ايضاً ابراز جانب، والصمت عن جوانب اخرى من الموضوع، وهذا ملاحظ في كثرة من التعليقات والمقالات التي تهاجم اميركا واسرائيل لكنها تتجاهل عن عمد اخطاء الحكام وممارساتهم التدميرية التي تلتقي موضوعياً مع العدوانية الاميركية… ويبقى وسط هذه الاوضاع المتردية والمتهاوية ان مسؤولية الانظمة هي الاولى، وانه قبل ان يطالب الحاكم غيره بالنقد الذاتي وبالتصحيح، فان هذا واجبه هو، قبل الآخرين. ان العالم لم يعد يتحمل قدسيّة الحكام وقيادات الاحزاب اياً كانت، ومن الزيف والدجل ادعاء العصمة، ومن الاخلال بالوطنية وبالانتماء الوطني، احتكار السلطة تعسفاً وحصر الوطنية في اقليات من الشعب: سياسية كانت او عائلية او قبلية او طائفية… الوطن للجميع، والوطنية ليست عملة احتكار، وكذلك المسؤولية القومية على النطاق العربي العام فقمع الشعب، وسلب حقوقه، وقهر المعارضة السياسية النزيهة مناف للوطنية المثلى، وان الانظمة الوطنية التي تضطهد الحريات وتفرض حكم الاجهزة الخاصة والمخابرات معرضة اكثر من سواها للهزّات والاخطار المثال المصري الناصري كمثل وقد تصبح المكاسب الوطنية كلها في مهب الريح. كما دلت التجربة المُرّة الى ان مشاريع الوحدة والاتحاد العربيين الارتجاليين التي طرحت وتحقق النادر منها انتهت الى الفشل ليس فقط جراء التآمر والضغوط المعادية للوحدة، وانما، قبل كل شيء، بسبب السياسات والاساليب اللاديموقراطية للحاكمين… وبذلك فان تلك الاساليب والسياسات أساءت الى قضية الوحدة وأضرّت بها وساهمت موضوعياً مع الاعداء في اضعافها واجهاض مشاريعها. ان امتهان حرية المواطن وكرامته، وسحق الرأي الآخر والحق في الاختلاف والمعارضة، انما تضعف حصانة المواطن في وجه الاخطار الخارجية ويهزّ روح المسؤولية الوطنية. وكما ترفض الوطنية الولاء للاجنبي والعمالة، فانها ترفض نهج القهر وسياسات الاستبداد. والديموقراطية، من جانبها، هي الوطنية الامثل والاصدق. ولا يمكن اتخاذ القهر الشامل منهج حكم ثم ادعاء الوطنية. كلا، بالتأكيد! * كاتب عراقي مقيم في باريس