حينما فاجأت القيادة الفلسطينية شعبها ومعه الشعوب العربية، بل والقيادات ايضاً باتفاق أوسلو، لم تقدّم ذلك الاتفاق على أنه الإنجاز التاريخي، بقدر ما حاولت تمريره من خلال العزف على وتر الاختلال في ميزان القوى، وان ليس بالإمكان أفضل مما كان، الى جانب الحديث عن قدرة الموقف النضالي على تحسين الشروط على الأرض بعد زرع الأقدام فيها، والتخلص من هواجس المنفى وشروطه. بالمقابل، كانت القيادة الصهيونية تدرك ما أصاب منظمة التحرير وقيادتها من شيخوخة ويأس، فضلاً عن الظروف الموضوعية التي فاقمت لديها تلك الحالة، ولذلك كان المخطط يقضي بجرها الى مربع الداخل، وحشرها في زاوية ضيقة، لا تفتح الأيدي الخارجية فيها أية نوافذ ذات قيمة، خصوصاً بوضوح التبعية الاميركية للمصالح الاسرائيلية، وبوجود ما يشبه الإرادة العربية الرسمية على التخلص من ملف التسوية والقضية الفلسطينية. من هنا، يمكن القول ان مراهنة قيادة منظمة التحرير على تحسين شروط أوسلو، قد قابلها تصميم اسرائيلي لا يلين، تحكمه أدوات القرار الحقيقية في الدولة العبرية الجيش والأجهزة الأمنية، وليس الجهاز السياسي فقط... تصميم على تشويه الاتفاق وجره الى هدف واضح لا جدال فيه، هو الحكم الذاتي المحدود، والمسيطر عليه، وليس على سكانه، من قبل اجهزة الاحتلال. ضمن هذا الهدف صاغ الاستراتيجيون الصهاينة آلية السير بالمفاوضات، والتي يمكن تلخيصها، بالتوقيع على اتفاق، ثم المماطلة في تنفيذ بنوده، ومن ثم تحريفها... وهكذا تدخل المفاوضات في حال من التعطيل والجمود، ثم يصار الى توقيع اتفاق جديد يحمل شروطاً أكثر سوءاً من الاتفاق الأول لأن السلطة هي المرشح دائماً للتنازل. ثم يصار الى نظام المماطلة وفرض الوقائع المختلفة من جديد، وليكون اتفاق آخر، إما مختلف أو لتطبيق الاتفاق السابق بشروط جديدة.... وهكذا. لم يحدث خلال رحلة السنوات الست منذ أوسلو وحتى الآن أن كان هناك اتفاق أفضل من الذي قبله بالنسبة للسلطة، أو من المستوى نفسه من السوء. ولم يحدث ان تم تطبيق أي اتفاق بحرفيته. كما لم يحدث ان أعلن قادة السلطة التمسك بموقف من المواقف المختلف عليها، واستمروا على ذلك، وأخذوا ما يريدون. هل تحتاج النظرية المذكورة الى دلائل؟ لنتابع المسيرة منذ ايلول سبتمبر 1993 وحتى الآن بشيء من الإيجاز. كان من المقرر ان يدخل اتفاق "اوسلو" حيز التنفيذ في 13/10/1993، على ان يبدأ الانسحاب من غزة وأريحا في 13/12/1993، وينتهي في 13/9/1994. وفي المرحلة الثانية تبدأ عملية اعادة الانتشار في بقية مناطق الضفة الغربية، ثم تبدأ المرحلة الثالثة وهي مفاوضات الوضع النهائي في 13/4/1996. لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى بدأت عملية المماطلة في تطبيق الاتفاق وتسليم الصلاحيات المدنية للطرف الفلسطيني، وبدأ الجنرال "رابين" يشدد في شروطه الأمنية، فيما بدأت جولات كريستوفر تتوالى لحل الإشكالات. في 9/2/1994، وقع عرفات وبيريز اتفاقية القاهرة الأولى، التي صعدت الشروط الأمنية وحجمت مدى اعادة الانتشار. في 4/5/1994، كان اتفاق القاهرة الشهير، والذي جاء نوعاً من التفصيل لاتفاقية اوسلو بعد خمسة شهور من المماطلة، وكان في سياقاته الأمنية، كما في مدى اعادة الانتشار اكثر سوءاً من "أوسلو"، وحكاية مساحة "أريحا" يعرفها الجميع! في 12/7/1994، عاد الرئيس الفلسطيني الى منطقة الحكم الذاتي، معلناً بذلك نظرية اللارجعة في لعبة التفاوض أياً كانت نتائجها، ومكرساً لغة التسرع في الوصول الى الاتفاقات، بحثاً عن هيكلية الدولة، اضافة الى حكم جميع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وهو البعد الذي أدركه الاسرائيليون واشتغلوا عليه بعناية وما زالوا يفعلون حتى هذه اللحظة. في 29/8/1994، كان ثمة في القاهرة، اتفاق آخر، سمي اتفاق النقل المبكر للصلاحيات، وهو اتفاق لا معنى له عملياً، سوى تكريس المزيد من مرجعية الأمن الاسرائيلي في كل شيء. في هذه الاثناء كانت عمليات المقاومة الاسلامية تعلن انطلاقة أقوى بدأت باختطاف الجندي "فاكسمان" في 19/10/1994، ثم عملية استشهادية ضخمة في تل ابيب 19/10/1994. في 13/7/1994، كان من المقرر - حسب أوسلو - ان تبدأ عملية اعادة الانتشار في الضفة الغربية بعدما انتهى كل شيء بخصوص غزة وأريحا وفق الرؤية الاسرائيلية أمنياً وجغرافياً وعلى صعيد المستوطنات، وجاءت انطلاقة العمليات من الضفة لتجعل الهاجس الأمني اكثر وضوحاً، وليصبح الهدف هو زج السلطة في قلب المعركة مع مجموعات المقاومة. عملية اعادة الانتشار في الضفة لم تبدأ حسبما هو مقرر، وتذرع رابين بأعمال المقاومة، فيما كان المطلوب هو تجزئة العملية المذكورة الى مراحل، خلافاً لاتفاق أوسلو، فضلاً عن تحقيق انجازات أمنية ضد خلايا المقاومة. وفيما كانت السلطة تعمل على تكريس "مصداقيتها الأمنية"، كان "رابين" يكرر على مسامعها مقولته الشهيرة حول عدم وجود مواعيد مقدسة، وكانت جولات "كريستوفر" وزير الخارجية الاميركي آنئذ، مجرد صدى للهواجس الاسرائيلية. كانت تجزئة عملية اعادة الانتشار، هي الهدف كما أسلفنا، وكان الاسرائيليون يدركون مغزى ذلك، فهذا جوزيف الفر مدير مركز جافي للدراسات الاستراتيجية وأحد المساهمين في هندسة الاتفاقات، يعترف في حزيران يونيو 1995 بذلك الارتباط الوثىق بين تقلبات المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي فيما يتعلق بالمستوطنات والحدود وبين صيغة الحل النهائي. وهو الأمر الذي يؤكد المخاطر التي انطوت عليها موافقة السلطة على تجزئة المفاوضات وقبول خرائط اعادة الانتشار الجديدة. وهو الأمر الذي تأكد في اتفاق طابا الذي وقع في 28/9/1995، والذي فصل في الترتيبات الأمنية الخاصة بإعادة الانتشار في المدن الرئيسية وتشكل 3 في المئة من المساحة العامة للضفة الغربية. الاتفاق الجديد غيّب مدينة الخليل من دون منطق وخرج بفكرة شيطانية حولت المناطق الفلسطينية الى ثلاثة أنواع: أ وتخضع للسيطرة المدنية والأمنية الفلسطينية، ب وتخضع لسيطرة مدنية فلسطينية وأمنية اسرائيلية، ج وتخضع كلياً للطرف الاسرائيلي. في الاتفاق وافقت السلطة على تجزئة إعادة الانتشار الى ثلاث مراحل تنتهي في منتصف عام 1997، وهي التي لم تنته حتى الآن. عملية الإفراج عن المعتقلين خضعت ايضاً للتجزئة، فيما لم يكن قد تم الالتزام بالدفعات التي نص عليها في الاتفاقات السابقة. خلاصة "طابا" انه كرس مبدأ تفتيت الوحدة الجغرافية لأراضي الضفة الغربية، وحولها الى بانتوستانات لا رابط بينها، سوى حواجز الاحتلال ومستوطناته وطرقه الالتفافية. بعد اغتيال رابين جاء بيريز واعداً بأن "يعيش الشعب الفلسطيني في ظل الحكم الذاتي بحلول نهاية العام 95"، ولم تكد أسابيع تمضي له في السلطة، حتى كان اغتيال الشهيد يحيى عياش في 6/1/1996، والذي تلته عمليات الثأر له ثم مجزرة قانا. وبالطبع، فقد تعطلت عملية اعادة الانتشار، ولم يفرج عن المعتقلين، ومع ذلك كانت قيادة السلطة تكافئ ذلك كله بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني في 24/4/1996. في الشهر التالي كان بيريز يغيب عن الساحة مكللاً بالهزيمة، رغم كل محاولات الاسناد التي تجلت في قمة شرم الشيخ، وجاء نتانياهو ليجمد التسوية ويصعد الاستيطان ويفتح نفق الأقصى. بيد ان ذلك لم يحل دون توقيعه لبروتوكول الخليل في 15/1/1997، والذي قسم المدينة الى جزءين يهودي وفلسطيني، فيما كان قلب المدينة وحرمها المقدس من نصيب القسم الأول. نتانياهو عاش على تراث بيريز ورابين، من حيث تجزئة اعادة الانتشار واستخدم ذلك في ابتزاز التنازلات الأمنية من طرف السلطة تحت شعار "التبادلية". اذ بينما كان على السلطة ان تستخدم الهواجس الأمنية في اخراج الاسرائيليين من الضفة، حصل العكس تماماً، وتمكن نتانياهو من دفعها الى التعاون الأمني بكل ما أوتيت من قوة، محققة بذلك انجازات عجز عنها الاسرائيليون. لقاء ذلك كله لم تحصل السلطة سوى على 10 في المئة من مجموع مساحة الضفة هي مراكز المدن و7 في المئة جرى تحويلها من ب الى أ، مع تأكيد حالة البانتوستانات. أما المرحلة الثانية من إعادة الانتشار والتي كان مقرراً ان تبلغ في مجموعها حوالى 30 في المئة، فبقيت حبراً على ورق، ودخل نتانياهو في مساوماته الشهيرة التي لن تنسى حول نسبة ال13 في المئة، والتي توجت باتفاق "واي بلانتيشن" الشهير في 22/10/1998 والذي لم تكن مصيبته في النسبة المذكورة فقط، وانما في تحويل مرجعية عملية السلام من الأرض مقابل السلام، الى الأرض مقابل الأمن، خلافاً لكل الاتفاقات ومذكرات الضمانات والتفاهم السابقة. في "واي - 2" كرر باراك اللعبة ذاتها، حيث أعاد انتاج اتفاق "واي" بجملة من التغييرات، لعل أبسط ما هو واضح منها هو تحول رقم ال750 أسيراً الذين كان من المقرر الافراج عنهم الى 350 مع تثبيت مبدأ عدم الافراج عن "الملطخة أيديهم بدماء اليهود"!!، ثم اعادة رسم خرائط اعادة الانتشار، بما لا يتجاوز نسبة 11 في المئة بدل 13 في المئة، فضلاً عن قصة المواعيد، وفوق ذلك الخروج بصيغة عجيبة تربط المرحلة الثالثة من اعادة الانتشار بالاتفاق على هيكل مفاوضات الوضع النهائي. أما الممر الآمن وميناء غزة، فقد سبق وأدرجا في أكثر من اتفاق سابق. ومع ذلك، فلن يكون التطبيق مماثلاً للنصوص أعاد الاسرائيليون انتشارهم الأول في 6.5 في المئة بدل 7 في المئة وسيصار الى تكرار نهج المماطلة، كما سيتأكد خلال الاسابيع المقبلة. تلك هي سيرة ست سنوات من المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال، لم تتخل عن قاعدة عملها، وستواصل ذلك وصولاً الى هدفها المعروف، ممثلاً في حكم ذاتي يفصل الفلسطينيين عن الاسرائيليين، فصلاً مادياً وليس سياسياً، وتحكمه لاءات "باراك" الشهيرة. فهل كان ذلك هو قدر الفلسطينيين، بفعل اختلال ميزان القوى، أم هو انعكاس لقدرات قيادة قاتلت من أجل التسوية، فلا أبدعت في القتال، ولا في المفاوضات!! * كاتب سياسي من الأردن.