تضمن اتفاق اوسلو عام 1993 بنوداً تقر انشاء ممر آمن يربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وتضمن اتفاق "واي بلانتيشين" عام 1997 الموقّع مع نتانياهو بنوداً عن ممرين آمنين للهدف نفسه. وأعلن ايهود باراك رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد عام 1999 استعداده لانشاء جسر يربط بين الضفة والقطاع ويكون بديلاً عن الممر الآمن المنصوص عليه في الاتفاقات. لا يطرح باراك فكرة الجسر كصيغة للتنفيذ انما كصيغة للمساومة، فهو يريد تأجيل تنفيذ ما تبقى من اتفاق "واي بلانتيشين"، تماماً كما فعل سلفه نتانياهو، ولكنه يختلف عنه بأنه يقدم اقتراح انشاء الجسر كعملية اغراء للفلسطينيين كي يقبلوا خطته السياسية، ويقول لهم ان الجسر سيؤمن الربط الجغرافي بين منطقتي الكيان الذاتي، وسيتيح هذا الربط انشاء الدولة الفلسطينية. وهناك جانب ثان في فكرة الجسر يتعلق بالسيادة، فباراك لا يريد انشاء ممر بري آمن، لأن الممر البري يقتطع جزءاً من السيادة الاسرائيلية، وهو يعتبر أن الجسر يلغي فكرة المساس بالسيادة. وقد سبق لخبراء اسرائيليين ان اقترحوا اضافة الى فكرة الجسر، فكرة انشاء نفق يحقق الغاية نفسها. وثمة جانب ثالث في فكرة الجسر أو النفق، هو الجانب الأمني، فالجسر أو النفق يمكن ضبط الأمن فيهما، وضمان عدم التسلل البري منهما، أكثر من الطريق البري. وإذا نحن جمعنا هذه الاقتراحات، وما يرتبط بها من خطط سياسية أو أمنية، لوجدنا ان اسرائيل تتلاعب بالفكرة أكثر مما تسعى الى تنفيذها، ويكفي هنا الاشارة الى أن ست سنوات مرت من دون ان تتقدم فكرة الممر الآمن خطوة واحدة الى الأمام، لندرك ان اسرائيل ليست جادة في هذا الأمر، وهي حين تطرح الفكرة بشكل جاد وان كان تحايلياً، تربطه بطلبات سياسية كبيرة خلاصتها عدم تنفيذ الاتفاقات الموقعة. وحتى ندرك عبثية المفاوضات التي دارت حول الممر الآمن، فسنقوم هنا باستعراض بعض مراحلها. لقد تم توقيع اتفاق أوسلو في شهر أيلول سبتمبر 1993. وتم توقيع اتفاق القاهرة بروتوكول تنفيذ اتفاق اوسلو في 5/5/1994، وتضمن اتفاقاً على انشاء أربع ممرات عبر الأراضي الخاضعة لاسرائيل. وبدأت بعد ذلك وبسرعة، وفي أيام اسحق رابين، مفاوضات سميت بمفاوضات توسيع الحكم الذاتي ليمتد الى الضفة الغربية، وكان الجو آنذاك تفاؤلياً، حتى ان الدكتور نبيل شعث كبير المفاوضين الفلسطينيين في ذلك الحين أعلن يوم 21/8/94 ان الممرات الأربعة ستفتح بعد ثلاثة أيام، ولكن المفاوض الاسرائيلي الجنرال داني روتشيلد قال في اليوم نفسه ان اسباباً أمنية تحول دون التنفيذ، ويجب أولاً تسوية الخلاف حولها، وكان جوهر تلك الأسباب حسب قول ورتشيلد: "اننا لن نسمح لرجال الشرطة الفلسطينيين بالمرور مع أسلحتهم عبر الأراضي الاسرائيلية، ونناقش الآن مسألة توصيل هذه الأسلحة على حدة"، وهكذا كانت المسألة الأمنية هي الحجة التي استعملت لتعطيل الاتفاق على فتح ممر "بري" آمن لعبور المسافرين. في تلك الفترة كان شمعون بيريز وزيراً للخارجية، وكان هو المشرف الاسرائيلي على المفاوضات، وكان يديرها من خلال نظريته المشهورة حول "الشرق أوسطية"، التي تتضمن مشاريع اقليمية وطرقاً اقليمية لتسهيل التجارة، وكان هناك حماس دولي لهذا التصور، وتم التعبير عن هذا الحماس في المؤتمرات الاقتصادية التي عقدت لهذه الغاية، وكان أولها مؤتمر الدار البيضاء، كما تم التعبير عن هذا الحماس أيضاً في المفاوضات المتعددة الجنسية الموازية للمفاوضات الثنائية. وانبثقت عن المفاوضات المتعددة "ورشة العمل الاقليمية للتنمية في الشرق الأوسط" التي نظمتها المجموعة الأوروبية، وعقدت لهذا الغرض ندوة في القاهرة 11/10/94 بحثت في مشاريع الطرق والممرات التي من المقرر أن تربط دول منطقة الشرق الأوسط. كان البحث يجري حول طرق تمتد من مدينة السويس المصرية، الى رفح وغزة، ثم الى شمال اسرائيل، ثم الى سورية، وصولاً الى تركيا وأوروبا، وفي اطار هذه الأحلام الشرق أوسطية تقدم الوفد الفلسطيني الذي كان برئاسة المهندس "اسامة نمر" باقتراحات لطرق تتعلق بأراضي الحكم الذاتي. طلب انشاء طريق يربط شمال الضفة الغربية بجنوبها امتداداً الى حيفا، وطلب انشاء طريقين آخرين، طريق يربط بين غزة والخليل، وطريق يربط بين غزة واريحا، ولكن التوصيات المعبرة عن هذه الأحلام لم تتجاوز وضع أوراق المشاريع في الملفات. وقد شهد العام 1995 بدء المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية لتكميل اتفاق أوسلو، ولمد الحكم الذاتي الى الضفة الغربية. وقد أدرك اسحق رابين ان تكميل الاتفاق سيعطي للفلسطينيين سيطرة على الأرض أكثر مما كان يتوقع، وان هذه السيطرة ستمس بواقع المستوطنات، فبدأ يناور لاقناع الفلسطينيين بتقليص مطالبهم، فعمد الى تطويل المفاوضات، الى أن اكتشف صيغة تقسيم السيطرة على الأراضي الى أراضي منطقة ألف، وأراضي منطقة ب وأراضي منطقة ج. واقنع الفلسطينيين بقبول هذه الصيغة مقابل الموافقة على ادخال تعديل على اتفاق أوسلو بخصوص ما يتعلق بالمجلس التشريعي حيث رفعت عضويته من 24 الى 88 شخصاً، وكذلك بخصوص انتخابات رئيس السلطة الفلسطينية اذ وافقت اسرائيل على أن يتم ذلك من خلال الانتخابات المباشرة. لقد كانت نظرية رابين بتقسيم تفتيت الأرض الفلسطينية الى ثلاثة أقسام تتناقض مع نظرية الربط بين الأراضي التي يتيحها الممر البري الآمن، ولذلك تم تطبيق الشق الأول وتلاشى على أرض الواقع تطبيق الشق الثاني. لقد بدأت المفاوضات التي استمرت حوالى سنة ونصف قبل توقيع ما عرف باسم أوسلو - 2 في جو عالٍ من التفاؤل بأن قضية الممر الآمن ستنجز، قالت الاذاعة الفلسطينية يوم 8/8/95 ان الجانبين سيوقعان قريباً اتفاق الممر الآن واتفاقاً آخر يتعلق بتنظيم عملية الاسكان عبر الممر، وانهما نجحا في تسوية الخلاف على انتقال أفراد الشرطة الفلسطينية بسلاحهم. وقال الدكتور نبيل شعث يوم 11/12/95 انه تفاوض مع اورن شاحور ومع يوسي بيلين حول تفعيل المفاوضات بشأن قضية الممر الآمن، وانه تم الاتفاق على بدء اقامته، ولكن كل هذا لم يكن سوى ذرٍ للرماد في العيون، ومحاولة كسب للوقت من أجل انجاز المساومة على صيغة تفتيت السيطرة على أراضي الضفة الغربية. وبعد ان اغتيل رابين، ونجح نتانياهو في الوصول الى السلطة في اسرائيل في منتصف العام 1996، دخلت المفاوضات في مسارٍ آخر، خلاصته رفض تنفيذ الاتفاقات. وحتى حين تكاثفت الضغوط الدولية، واضطر نتانياهو الى حضور مفاوضات "واي بلانتشين" وتوقيع الاتفاق الصادر عنها، والمتضمن انشاء ممرين آمنين، تنصل نتانياهو من التنفيذ مستنداً الى فكرة "التبادلية" التي تضمنها الاتفاق، وقال انه لن يواصل التنفيذ الا بعد أن ينفذ الفلسطينيون ما يترتب عليهم، وبخاصة في المجال الأمني. وبقي الموضوع مجمداً الى أن وصل باراك الى السلطة، محاطاً بحملة من الترويج التي تصوره كحمامة وديعة للسلام، بينما هو في حقيقته من أكثر المتصلبين الاسرائيليين في موقفه المتعلق في الموضوع الفلسطيني. وحين أعلن استعداده للبحث في انشاء "الجسر" الآمن، ربطه كما قلنا بشروط متعددة تحقق له غاياته. ان جسر باراك يحتاج الى 10 مليارات دولار لانجازه حسب تقديرات الدكتور محمد أشتيه مدير عام المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار بيكدار، ويحتاج بناؤه الى فترة عامين على الأقل، وخط سيره مخالف لما كان تم الاتفاق عليه في اللجان التفاوضية. وحسب تلك الاتفاقات كان يفترض فتح ممرين: - ممر يربط بين غزة وترقوميا في قضاء الخليل. - وممر آخر يربط بين غزة ومدينة رام الله وسط الضفة. أما جسر باراك فيربط بين غزة وجنوب الضفة الغربية فقط. ومن المفيد أن نستذكر هنا تصريحاً صحافياً أدلى به أحمد قريع أبو علاء رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني في 13/2/96، وسخر فيه من اقتراح بناء جسر وقال "المطلوب في رأيي هو الممر الآمن الذي يصل بين الضفة وغزة على الأرض، كممر دولي ثابت ومعترف به، يكون بمثابة التجسيد لمفهوم الوحدة الجغرافية على الأرض، وليست الوحدة المعلقة في السماء". وكل ما نأمله ان يستذكر المسؤولون الفلسطينيون مواقفهم السابقة التي تسخر من فكرة "الجسر" كممر آمن، وان يواصلوا تمسكهم بفكرة الممر الآمن الأرضي من أجل تجاوز حالة التفتيت الجغرافي التي كرستها الاتفاقات الموقعة، وان لا يفاجئونا بعد أشهر من المفاوضات الجديدة بالقول: لقد قبلنا فكرة الجسر لأنه لا بديل سوى ذلك، وان يحاولوا بعد ذلك تصوير الأمر على أنه انتصار تم فيه انتزاع موافقة باراك على انشاء دولة فلسطينية. * كاتب من اسرة "الحياة".