لو علم والدا الصحافية اللبنانية كوزيت الياس ابراهيم التي اختطفتها المخابرات الاسرائيلية من بلدة رميش المحتلة في جنوبلبنان، أن اسمها الذي اختاراه لها من بطلة رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو سيودي بها يوماً الى زنازين الإعتقال، لسمّياها "حرية". قدّر لكوزيت ان تولد في بلدة في الشريط الحدودي احتلها الغزاة وفصلوها عن باقي اجزاء الوطن بعدما أمعنوا بسكانها قتلاً وترهيباً واعتقالاً ، فآثر بعضهم البقاء فيها ورحل البعض الآخر لقساوة ظروف العيش وطلباً للعلم، ومنهن كوزيت ابنة مزارع التبغ الياس ابراهيم، الشقيقة الصغرى لخمس اخوات وشقيقين. وبعدما أنهت دراستها في بلدتها غادرتها في العام 1995 الى بيروت لتسكن في بيت للطلبة قرب كلية الإعلام - الفرع الثاني في الفنار. أكملت دراستها الجامعية وتخرجت بتفوق، وبعدما وعدت بعمل في مجال اختصاصها عادت الى بلدتها لتمضية عطلة الصيف مع اهلها ... و"لتجد نفسها خلف القضبان"، إذ سيق قبلها بعشرة ايام الى زنزانة في معتقل الخيام، صهرها ديغول ابو طالب الذي يملك مصنعاً للقطنيات في رميش وجورج خيامي من البلدة نفسها، وقد حال سجنه دون اتمام زفافه الذي كان مقرراً في اليوم الثاني لتوقيفه. التقت "الحياة" زملاء وأصدقاء وأساتذة لكوزيت أخبروا عنها، خصوصاً عن "حضورها الهادئ في الجامعة وانضباطها وابتعادها عن المظاهر". ويقول استاذ مادة "وسائل الإعلام الحديثة والتحرير في فن المقابلة والخبر": "دعونا مرة الزميل مارسيل غانم يدير برنامج "كلام الناس" في "المؤسسة اللبنانية للإرسال" الى الجامعة، فاختارها الطلاب لإلقاء كلمة ترحيبية به. واكتشفت عندها، ومن خلال كتابات لها في صحيفة كانت تصدر عن طلاب جامعيين، ان لديها اسلوباً ساخراً. ولم تمضِ مدة حتى تلقيت اتصالاً من مجلة "الدبور" للإستفسار مني هل بين طلابي من يتمتع بأسلوب تهكمي، فوقع اختياري عليها فوراً". وكما زميلاتها في الجامعة يبدي الأستاذ الجامعي خوفاً كبيراً على حياة تلميذته "المتفوقة دائماً في جامعتها" إذ كانت تعاني تقرحاً حاداً في معدتها وكانت تتناول وجبات خاصة. وتعيش مي إليان مأساة ما حل بزميلتها كوزيت "انها مريضة، وقد فوجئنا بإقدام إسرائيل على اختطافها. كانت تريد اكمال دراسات عليا في الصحافة، وبقيت في بيروت حتى الصيف الجاري بدافع التفتيش عن عمل الى ان وعدت اخيراً في القسم العربي في وكالة "فرانس برس" مع بداية العام المقبل. فاطمأنت وتوجهت للقاء اهلها في رميش وكانت المفاجأة". وتؤكد إليان ان كوزيت التي تربطها بها صداقة وثيقة "لم تكن مرة حزبية لكن آراءها حرة وتتمتع بحس وطني. كلنا يعرف ان اسرائيل تكن عداء لكل ما هو غير اسرائيلي، فلماذا تحاسب فتاة على افكارها؟ وهل في ذلك تهمة؟ خصوصاً انها ابنة الشريط المحتل وتسمع كل يوم عن الممارسات الاسرائيلية في حق مواطنيها. اسرائيل تأخذ على النازيين ما فعلوه باليهود، فأين النازية من جرائمها؟". وتعقب زميلة اخرى "كوزيت لم ترتكب جرماً لتعتقل وخطيئتها انها ناضجة اجتماعياً وابنة بلدة محتلة، ولو كنت انا من رميش وذهبت للقاء اهلي لاعتقلت ايضاً". وتضيف "كانت دائمة الحضور في الإعتصامات دفاعاً عن الحريات وكل ما له صلة بالشأن العام الى ان اصبحت هي القضية، واعتصامنا الخميس كان من اجل اطلاقها في اسرع وقت مع جميع المعتقلين، وإقفال سجن الخيام. وعلى كل لبناني ان يتحرك في هذا الإطار. والمشاركة في الاعتصام كانت كثيفة من مختلف التيارات ومن كل المناطق حتى وجدنا انها فعلاً تمثل الوحدة الوطنية". وتقول إليان ان زملاء كوزيت وزميلاتها وأساتذتها وأصدقاءها تنادوا الى اجتماع اليوم لتحديد شكل التحرك المقبل، وستؤلف لجنة لمتابعة القضية تبدأ بزيارة كل المراجع وفي مقدمهم رئيس الجمهورية اميل لحود، ضمن حملة واسعة للضغط من اجل اطلاقها". ويستغرب زملاء آخرون كيف ان كل الرسائل التي وجهت الى رئيس الحكومة الاسرائيلي ايهود باراك من المنظمات الدولية ولجنة حقوق الانسان و"صحافيون بلا حدود" والرئيس الفرنسي جاك شيراك من اجل اطلاقها فوراً، "لم تحرك فيه ساكنا". ويسألون بتهكم "هل اكتشف الاسرائيليون انها هي صاحبة فكرة إلقاء اليهود في البحر؟". وتصف هلا مغبغب صديقة كوزيت وزميلتها ب"المميزة وذات الثقافة العالية جداً والصريحة والمتواضعة ولا تقدم على اي عمل إلا عن اقتناع"، وتؤكد أن "لا انتماء سياسياً لها، انما انتماؤها وطني صرف فهي مشغوفة بقراءة الكتب الفكرية والسياسية والشعر. تمتلك مخزوناً فكرياً عالياً الى درجة اننا كنا نلجأ إليها للإستفسار منها عن احداث كثيرة تقع في العالم". وتتحدث هلا عن مشكلات صحية تعانيها كوزيت، وعن مفاجأتها باعتقالها وتوجيه اتهامات اليها هي بريئة منها، "لأنني اعرفها من كثب، ونادراً ما فارقتها في السنوات الجامعية الأربع، خصوصاً اننا كنا معاً في بيت طلبة واحد". وتضيف "كنت على تواصل دائم معها من خلال الهاتف، حين تكون في قريتها، وقد طلبت مني قبل يومين من اعتقالها ان اقدم لها طلب تسجيل لإتمام الدراسات العليا في الصحافة على ان تأتي الى بيروت في الأسبوع المقبل الذي تلا اعتقالها". وتضيف "قبل اختطافها بنحو اسبوعين كنت اخابرها للإطمئنان اليها، فشعرت انها متضايقة، وعندما كنت اسألها السبب، كانت تردّ ألا تقرأون الصحف الوضع ليس جيداً هنا. لما أطلعت زميلاتي على ما سمعت منها ابتعنا صحفاً وعلمنا ان بلدتها محاصرة من الإسرائيليين وأن صهرها اعتقل مع شبان آخرين من البلدة". لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية تتابع قضية كوزيت على أعلى المستويات. ويقول رئيسها محمد صفا ل"الحياة" ان "اتصالات دولية عدة تجرى يومياً في هذا الشأن وأن الحملة متواصلة لإطلاقها وتتفاعل دولياً". وكشف انه تلقى امس رسالة من عضو منظمة العفو الدولية في كندا رولاند آدمز مفادها ان صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بدأت للمرة الأولى تكتب عن المعتقلين، وأنه لمس منها اهتماماً بهذه القضية، خصوصاً ما يتعلق بكوزيت. وأبلغه انه فوجئ بتلقي اتصالات من مراسلي الصحيفة المذكورة يطلبون منه ارسال تقرير مفصل لهم عن ظروف اعتقال كوزيت، وأخبره أن الموضوع بدأ يأخذ صدى كبيراً داخل الرأي العام الإسرائيلي. ويقول آدمز انه ارسل تقريراً مفصلاً للصحيفة عن سلوك المعتقلة وخلفية اعتقالها وأنه استقى معلوماته من مصادر عدة تؤكد ان عملية الإختطاف غير مبررة واعتداء على حريتها، وأن التقرير ستنشره "هآرتس" قريباً. وكشف صفا أيضاً ان منزل عائلة كوزيت في رميش يخضع للمراقبة الدقيقة، وأن معلومات وردت على اللجنة تفيد ان المخابرات الاسرائيلية وجهت تهديداً الى عائلتها، وأسمعتها كلاماً قاسياً على خلفية الإعتصام الذي حصل في بيروت، وتوعدتها بأن ما يحصل سينعكس سلباً على كل العائلة، وطلبت منها الإيعاز الى معارفها خارج الشريط بالضغط لوقف اي تحرك يتعلق بالقضية، فضلاً عن ان هاتفها مراقب". وأضاف "ان كوزيت اعيدت الى السجن على رغم سوء حالها الصحية على اثر اعلان ادخالها المستشفى وتحرك الصليب الاحمر الدولي للوقوف على وضعها. والأخير ينتظر مرور 21 يوماً على اعتقالها المدة الزمنية التي يسمح فيها له بدخول المعتقل". ما من أحد سمع باختطاف كوزيت ابراهيم للوهلة الأولى من معارفها وصدق الخبر. فالكل اجمع على عدم انتمائها الى اي تنظيم سياسي او تزويدها معلومات لأي جهة. كيف ذلك وهي طول سنوات دراستها كانت بعيدة عن اهلها وبلدتها؟ باستثناء ما يبيّت من حقد صهيوني على ما كتبته مرة في نشرة تصدر عن طلاب جامعيين غداة مجزرة قانا، تحت عنوان "كيف يمكن ان نفسّر ما حدث؟". ولم يخلُ المقال من اسلوب تهكمي ولاذع تسأل فيه "كيف يمكن ان نفهم سلوك الدولة التي صنعت في افران اوشفيتز؟ فالإسرائيلي يشعر ان لديه توكيلاً خلقياً او إذناً يخوله بأن يفعل ما يريد. ولكن حتى لو استطعنا ان نصدق ان طياري سلاح الجو الاسرائيلي الذين كانوا فوق قانا لم يعلموا ان قذائف عناقيدهم ستصيب المدنيين الأبرياء، فإن عدم معرفتهم تكون كعدم معرفة الجنود الألمان الذين كانوا خارج بوخنوالد وتربلنكا ولم يكونوا على علم بما يحدث فيهما. ان مصابنا أليم لكن الأفظع اننا غداً سنذهب الى مائدة التفاوض واضحين كما الحقيقة: قاتل يدلي بسكين ... وقتلى". فهل كتابة بضعة اسطر عما شاهدته وآلمها، عما حل ببني قومها، ضاق بها صدر جلاديها فانتظروا فريستهم ليمعنوا فيها تعذيباً ويسوقوها الى المعتقل؟