عمل السكرتاريا من الاعمال الشائعة التي احرزت تطوراً كبيراً في سوق العمل. وبدأ مفهومه يتجه نحو الادارة واتخاذ القرار اكثر من كونه عملاً خدمياً لتنظيم سير العمل والرد على الهاتف وترتيب جدول المواعيد والاجابة على المراسلات. لكن هذا التطور بمفهوم السكرتاريا لم ينتشر بعد الا في البلدان المتقدمة اقتصادياً وفي اسواق العمل العملاقة التي تتطلب كوادر ذات كفاءات عالية تتمكن من النهوض بالشركات والمؤسسات، بل وتساهم في زيادة ارباحها مقابل الحصول على نسبة من تلك الارباح. ومن الملاحظ ان هناك ميلاً واضحاً لاستخدام المرأة في هذا الموقع، ولهذا اسبابه المعروفة، اذ تتميز المرأة بالصبر والرقة والاهتمام بالتفاصيل وما الى ذلك من مواصفات يتطلبها هذا العمل الحساس. انه عمل يحتاج لقدرة تحمل نفسية ويلائم الطبيعة الفيزيولوجية للمرأة اكثر من الرجل. كما ان الرجل عموماً يحتاج الى امرأة تسانده في العمل كما في الحياة، وهذا ما يجعل لشكل العلاقة بين المدير والسكرتيرة جوانب انسانية، ما ينعكس ايجاباً على العمل، أو قد يشكل عقبة كبيرة غالباً ما تدفع ثمنها السكرتيرة التي تفقد عملها. في عيادة لأحد الاطباء، تحدثت منى. م. عن تجربتها كسكرتيرة في اطار العلاقة الانسانية مع مرؤوسها قائلة: "كنت مفتونة بالاخلاق العالية التي يحملها الطبيب رب عملي. في البداية كان الامر مريحاً لكن تجاهله الدائم لأنوثتي جعلني أحقد عليه وأغار من زوجته، حاولت مراراً التقرّب اليه في لحظات الضعف او الاخفاق التي كانت تصيبه في احيان، وكنت احرص على ان اكون صديقة متفهّمة لظرفه، الا انه كان يصدّني في كل مرة، رغم تأكدي من ودّه لي ورقته معي، ربما هذا جعلني احترمه كثيراً وأعدل عن التفكير به كصديق، واقتنعت بكونه ربّ عمل رائع. لكنني ما زلت احمل في ثناياي مشاعر غيرة تجاه زوجته الجميلة". وتتناقل وكالات الانباء اخباراً وتحقيقات عن واقع عمل السكرتاريا والرواتب العالية التي تتقاضها السكرتيرة في المدن الكبرى والبلدان المتطورة. لكن لا يزال هذا العمل في بلداننا يفتقد الى تقدير عامة الناس، ولا يزال هناك من ينظر اليه كعمل خدمي من اهم مهماته الرد على الهاتف وتقديم قهوة لضيوف المدير واستقبال العملاء. ومن المؤسف ان هذه النظرة ما زالت قائمة في المجتمع السوري والعربي عموماً، وان لم تكن على نطاق واسع، بسبب اقبال الشابات خصوصاً على هذه المهنة التي باتت تدرس اصولها في معاهد متوسطة، ولأن هذا العمل هو من اكثر المجالات المتاحة التي تستقطب اي شخص يمتلك مؤهلات العمل الاساسية مثل معرفة لغة اجنبية والتعامل مع الكومبيوتر. فقد اصبحت الغالبية العظمى من خريجات كلية الآداب اقسام اللغات الاجنبية يعملن على إعداد أنفسهن لعمل السكرتاريا باتباع دورات تعليم كومبيوتر، خصوصاً وان دخل السكرتيرة يصل تقريباً الى ضعف مرتب العمل الحكومي. السكرتيرة ذات الواجبات المتعددة في المكتب، شخص لا غنى عنه لتنظيم آلية العمل. ولوجودها كامرأة تشارك في اضفاء اجواء أسرية ملطّفة لظروف العمل، وهي تكون في اوقات معينة درع الحماية لرب العمل، سواء في امتصاص غضبه او في تجنيبه مواقف لا يريد مواجهتها لاعتبارات معينة، فتضطر لتحمّل ردّات فعل او افعال اشخاص ربما يريد الهرب من مواجهتهم. وهنا تكون المهمة الصعبة للسكرتيرة التي تأخذ غالباً موقع الوسيط بين المدير ومراجعيه. وهذه المهمة تأتي في صلب عمل السكرتاريا في البلدان التي لا يزال فيها هذا النمط من العمل ذا طابع خدمي. ومن اهم المشكلات التي تعترض هذا العمل تلك الناجمة عن ارتباك العلاقة الانسانية بين الرئيس والمرؤوس، وهي علاقة لا يمكن التغاضي عنها او تجاهلها طالما لم تصل بلداننا الى مرحلة رفع العمل فوق العواطف والمشاعر. فالسكرتيرة في دولنا تعاني من إلتباس العلاقة بين الذكورة والانوثة في العمل، وهي عقدة لم تتمكن دولنا الشرقية من تجاوزها او التعامل معها بطبيعية، وتشكو سكرتيرات من تدخل المدير في شؤونهن الخاصة او معاملتهن كأحد الاشخاص المقرّبين او الممتلكات الشخصية في بعض الاحيان، وفي احيان كثيرة كغريبة او مأجورة. ولا نستغرب اذا سمعنا رب عمل يقول في لحظة صدق مع نفسه: اشعر بأن سكرتيرتي صديقتي او احدى افراد اسرتي، تعيش مع اخفاقي ونجاحي. واحياناً كثيرة، لا استطيع اغفال انوثتها كونها تمثل الى حد كبير النصف الآخر لي كرجل قبل ان اكون رب العمل، رغم حرصي الشديد على حفظ الخط الفاصل بين عملي ومشاعري كرجل. فالطبيب رضا د. يقول: "ان الممرضة في عيادتي كابنتي تماماً، احياناً اقسو عليها لانها تنسى كونها ممرضة، وتحاول تجاوز ذلك لتصبح صديقتي وهذا ما لا ارضاه حتى لو تمنيت ذلك في قرارة نفسي، لان طبيعة العمل في المجال الطبي وسني وموقعي الاجتماعي لا يسمحان بعلاقة من هذا النوع…". كما لا نستغرب ان تبادل السكرتيرة مديرها المشاعر، فتصرّح: "احتاج الى ربّ عملي كصديق او اخ او ربما أب… اتعامل معه يومياً اكثر مما اتعامل مع اي شخص اخر. اعيش معه لحظات فرح وود بشكل يومي. كل ثناء يوجهه اليّ يجعلني اشعر بحب غامر تجاهه. وفي المقابل تبرز اللحظات الاكثر مرارة، حين يوجّه لي تنبيهاً او ملاحظة تشعرني بأنني مستخدمة او مجرد عاملة هامشية، رغم ان العمل كله يرتكز على ما اقوم به". رولى خ. التي عملت لفترة قصيرة في مكتب شركة ادوية اجنبية قالت عن تجربتها: "تجربتي قصيرة في عمل السكرتارية ولم تتجاوز مدة الاختبار التي هي ثلاثة اشهر. في اليوم الاول لتسلّمي عملي، لاحظت تعاطف المدير معي، وطبيعة العمل فرضت عليّ التواجد معه طوال النهار في مكان واحد مغلق. ربما يأتي ضيف او مراجع اثناء اليوم ولكن معظم الوقت كنا نبقى وحيدين معاً، وكان يهرب من اعباء المنزل وزوجته، فكانت اوقات الفراغ مناسبة لتبادل النقاش والحوار. وكثيراً ما كنت اشعر انه يعمل عندي وليس العكس. كان يعد القهوة او يحضر طعام الغداء لنجلس معاً، الى ان تحولت هذه الاوقات الى اهم الاوقات في عملنا. تعاطفت معه بدرجة كبيرة ولكن ارتباطي بشخص آخر كان يقف حائلاً دون الاقتراب منه اكثر حتى بدأ يزعجني بهذه المسألة. وصار يطلب مني ترك صديقي لألتزم به، وهو على استعداد لفعل اي شيء من اجل ذلك، شعرت ان زمام الامور بدأ يفلت من يدي، خصوصاً عندما احتفلنا معاً بعيد ميلادي الذي كان مفاجأة لي، حين أدار اسطوانة الموسيقى وطلب اداء احدى الرقصات معاً… عندها وقفت على المحك، بين ان استمر بالعمل الذي اقترن بالعلاقة، وبين ان اخسر العمل لأرتبط بصديقي، فشعرت بأهمية ان تستخدم المرأة عقلها ولا تسمح لمشاعرها بالتمادي، لان كل شعور يتخذ صفة الود يتحول مع مرور الوقت إما الى حبّ او الى علاقة ضمن هذا الاطار…". غالباً ما تسود طبيعة العلاقة بين المدير والسكرتيرة مشاعر متناقضة بين الواجب ومسؤوليات العمل من جانب، وبين المشاعر الانسانية الناجمة عن التآلف والاعتياد على التعامل اليومي مع هذا الشخص دون غيره من جانب آخر. ومهما بلغت تحفظات المدير في العمل وسريته، وكذلك حرص السكرتيرة على التزام حدودها، لا يمكن التغاضي عن مشاعر المدير كرجل او مشاعر السكرتيرة كإمرأة في اللحظات الاكثر صفاءً، حين يعيشان معاً مشاعر مشتركة سواء في النجاح او الفشل… ولا يتردد خالد ع. وهو فنان تشكيلي ومدير مكتب حكومي في الافصاح عن ولعه بالمرأة عموماً، وبالتي تلازمه خلال العمل خصوصا، فيقول: "السكرتيرة الخاصة بي هي اقرب الناس اليّ، وخلال مسيرة عمل ثلاثين عاماً، تعرضت لمواقف لا أُحسد عليها نتيجة حبي للمرأة وتعلّقي الشديد بها. فكل سكرتيرة عملت معي كنت أشعر نحوها بحب جارف او لنقل تجاذباً عميقاً. حتى وصلت مع احداهن الى درجة من العشق الشديد، من جانبها طبعاً، أو عندما اكتشفت انني دونجوان وأغازل غيرها كما أغازلها، تعاركنا ورمتني بأقرب شيء الى يدها، للأسف كان صحناً لأعقاب السجائر، ودفعت ثمن ذلك اسناني، لا اعتقد انه يوجد رجل في العالم لا يتعاطف مع امرأة تعيش معه بشكل يومي مهما كان شكلها، ولكن العلاقة مع السكرتيرة تبدو اكثر جمالاً لانها غير مملّة. فكل ممنوع مرغوب وطريف يعطي دفعاً اجمل للحياة… اعتقد ذلك… ولكن الثمن احياناً يكون باهظاً… خصوصاً عندما تعلم الزوجة، وهي عادة ما تعلم ولو بعد حين". فما الذي يجعل العلاقة بين المدير والسكرتيرة، التي تبدو منسجمة ظاهرياً، متوترة من الداخل، تتجاذبها عوامل عدة غير مرئية احياناً؟ والى أي حد يمكن التغاضي عن مشاعر الذكورة والأنوثة في العمل؟ وهل تصح دائماً مقولة العمل يعني العمل؟ يقول هاني س. مدير مكتب مقاولات: "اول ما شاهدت سكرتيرتي استعذت بالله على قبح وجهها، فهي ليست من النمط الذي احبه، كانت شديدة السمرة، واضطررت لتشغيلها لانها جاءت عن طريق احد الاصدقاء، اتبعت وسائل عدة للتخلص منها، احداها دفعها الى اختبار قاس في العمل وتحميلها ما لا تستطيع، الا ان كفاءتها العالية ونشاطها وخفة روحها جعلتها تتجاوز الاختبار بجدارة، وهذا ما جعلني ارى ضرورة بقائها معي، والاعتياد اليومي على رؤيتها، مما نحى بي للبحث عن جمالياتها الانثوية. وكثيراً ما طلبت منها تغيير مظهرها الصبياني، والاستعاضة عن ارتداء البنطلون بالتنورة، لكنها ترفض دائماً، ولم تكن تفهم ابداً ان الرجل يريد الى جانبه امرأة حقيقية وليس صبياً! من المعيب جداً ان تهمل المرأة في العمل، خصوصاً في السكرتاريا انوثتها، فان العناية بهذا الجانب يضفي اجواء ملطفة على العمل لا سيما في التعامل مع الزبائن. من خلال تعاقب عدد من الفتيات للعمل معي ازدادت رؤيتي للمرأة غموضاً فكان يحيّرني دائماً تقرّبهن مني واظهارهن الودّ، ولكن حين ابادرهن بكلمة غزل او اعجاب، يبدين تخوفاً واحياناً رفضاً وقحاً، ما يجعل مزاجي عصبياً ونزقاً، غالباً ما ينعكس سلبياً على العمل، وهذه مشكلة عانيت منها كثيراً مع السكرتيرة الاخيرة التي تركتني فخسرت بذلك كفاءة مهنية عالية". وحول موضوع تدخّل رب العمل في مظهرها وكيفية تعامله معها، تقول ندى ع. الموظفة في مكتب تجاري: "قبل ان اعمل في مكتب خاص، كنت في وظيفة حكومية ولم أعان ابداً من اي مشكلة مع رب عملي، كونه قليلاً ما كان يتواجد في المكتب بحكم طبيعة العمل، كما لم يكن يعنيه ابداً شكلي. عندما حصلت على عمل في مكتب تجاري، عاملني مديري بتهذيب ولطف كبيرين ما جعلني اميل الىه، فأنا اقضي معظم نهاري معه في المكتب، وهو بدوره بات يتقرّب مني ويغازلني بعبارات لم تقنعني في بداية الامر. وكان يطالبني مثلاً بتغيير مظهري والاقلاع عن ارتداء الجينز… كما كان لا يتوانى ابداً عن انتهاز اي مناسبة للتعبير عن اعجابه بجسمي وضرورة ابراز انوثتي احتراماً لطبيعة العمل التي تفرض نمطاً رسمياً بالتعامل مع عملاء المكتب… حاولت مراراً ان اضع حداً لملاحظاته فلم أوفق، ما اضطرني الى مغادرة العمل عدة مرات وقلبي معلّق به ليس حباً، بقدر ما هو اعتياد وتعايش. كان يؤكد لي كل مرة انه لن يتعرض لي كأنثى لكنه لم يستطع ذلك، لذا تركت العمل الى عمل آخر هرباً من المشكلة…".