"وهو لا يرى نفسه شيئاً، وكلما ازداد عِلماً ازداد تواضعاً، وكلما عجب الناس من سعة علمه عجب هو من كونهم يرونه عَالِماً". هذا الكلام كتبه شكيب ارسلان عن يعقوب صروف في مقال نشر اثر وفاة هذا الاخير، في مجلة "المقتطف". والذين عرفوا صروف لا يرون اية مغالاة في الكلام الذي كتبه ارسلان، لأن صروف، الى علمه الغزير ونشاطه الكتابي الدؤوب، واتساع دائرة اهتماماته العلمية والفكرية والثقافية، عُرف بأخلاقه التي كانت اخلاق عالم حقيقي. وكان ارسلان، حين رحل صروف في اليوم الاخير من شهر تموز يوليو 1927، واحداً من كثرة من الكتّاب الذين اذا كتبوا عن الراحل ركّزوا حديثهم على اخلاقه، وعلى ارتباط المسألة الاخلاقية لديه بالمسألة العلمية. يعقوب صروف كان، في المقام الاول، عالماً. وكان واحداً من الذين رأوا ان ثمة فائدة للقارئ العربي، كبيرة في الكتابة عن العلم وظواهر الكون. وهكذا اهتم طوال حياته بهذه الناحية، وكرّس لها تلك المجلة الشهيرة التي كانت من اهم المطبوعات العلمية في تاريخ الثقافة العربية:"المقتطف" التي كان بدأ يصدرها مع فارس نمر وشاهين مكاريوس في القاهرة منذ العام 1885، بعد ان اصدرها الثلاثة في بيروت طوال عشرة اعوام سابقة على ذلك. ومن المعروف ان الدكتور يعقوب صروف خلال اشرافه على المجلة، اصدر منها واحداً وسبعين مجلداً تعتبر، في مجموعها موسوعة علمية متكاملة. ولد يعقوب صروف العام 1852 في قرية الحدث القريبة من بيروت، وتلقى دروسه الجامعية في الجامعة الاميركية في العاصمة، حيث تميز بالرياضيات والفلسفة، لكنه - مثله في هذا الوقت مثل المتنوّرين في زمنه - كرّس للأدب والشعر بعضاً من وقته واهتماماته وهذا ما جعله يخلف لدى رحيله مجموعة من الكتب والدراسات العلمية، اضافة الى روايات عدة وكتب ادبية مختلفة. في بداية حياته العلمية مارس يعقوب صروف التدريس، حيث نجده طوال ثلاث سنوات مدرّساً في مدارس صيدا وطرابلس وصافيتا. وفي الموسم الدراسي 1873 - 1874، وكان بالكاد تجاوز الحادية والعشرين من عمره، دعته الجامعة الاميركية وكانت تدعى الكلية الانجيلية السورية في ذلك الحين ليدرّس فيها العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية وعلم الفيزياء، فانصرف، كما يقول الكونت فيليب دي طرازي في كتابه "تاريخ الصحافة العربية" الى "الدرس والتدريس وقرن العلم بالعمل وجعل تلامذته يطبّقون علم الهندسة وحساب المثلثات على مساحة الاراضي ويصنعون الآلات الطبيعية كلفائف الحدوة والاجراس الكهربائية، وكان ذلك دأبه وهو تلميذ، فانه صنع آلة تدور بالماء على مبدأ مطحنة باركر، وهو يدرس علم السوائل، فأخذها رئيس المدرسة وحفظها بين اجهزة الفلسفة الطبيعية، وهي التي ذكرته به حينما كانت المدرسة تبحث عن استاذ لتدريس علم الطبيعيات". اذن، من التدريس الى الصحافة والكتابة في العلم، خطوة قطعها يعقوب صروف في العام 1876 حين قرر مع زميليه نمر ومكاريوس تأسيس مجلة علمية اطلقوا عليها اسم "المقتطف" وكان مقدراً لتلك المجلة ان تصدر في بيروت لزمن طويل مقبل، لكن الاوضاع السياسية في المنطقة لم تمكّنهم من مواصلة اصدارها هناك، فانتقلوا بها الى القاهرة، حيث سرعان ما اصبحت واحدة من اكثر المجلات العربية انتشاراً، وتكوّن عبر دراساتها ومتابعتها لكل جديد، جيل كامل من علماء العرب في ذلك الحين، كما انها دأبت على تبسيط العلوم وتقديمها للقارئ العادي. وكان يعقوب صروف المحرر والمترجم الرئيسي للمجلة، من الافتتاحية الى دراسات تبسيط العلوم، الى التأريخ لكبار العلماء والمخترعين على مدى التاريخ، الى باب الاسئلة والاجوبة الذي كان - في حدّ ذاته - يعتبر موسوعة علمية كاملة. وكان من عادة يعقوب صروف ان ينشر كتاباته على حلقات في "المقتطف" ثم يجمع منها في كتاب ما يستحق هذا الجمع، وهكذا تضم لائحة كتبه روايات نشر بعضها مسلسلاً، وكتباً علمية وتاريخية. من بين رواياته هناك "فتاة مصر" التي تحدثت عن المجتمع المصري عند بدايات القرن العشرين، ورواية "أمير لبنان" التي تتحدث عن هذا البلد خلال احداث ستينات القرن التاسع عشر، و"فتاة الفيّوم" وهي رواية عصرية. أما كتبه العلمية فأشهرها "اعلام المقتطف" ويضم تواريخ حياة رجال العلم والفلسفة منذ عهد سقراط حتى العام 1924، و"فصول في التاريخ الطبيعي في مملكتي النبات والحيوان" و"العلم والعمران" و"بسائط علم الفلك وصور السماء" و"الرواد".