أبرز المفكرين حمل تلك القضايا وبشر بها عدد من المفكرين من أبناء الطبقة الوسطى الذين تعلموا في الغرب أو اطلعوا على التجربة الغربية عن قرب ، ورأوا أنه يمكن نقل تلك التجربة دون اصطدام بالموروث و دون فقدان للهوية ودون إخلال بالوطنية والتفريط بالاستقلال فكان الاستقلال ضمن أولويات الحركية الليبرالية العربية . ويمكن الإشارة إلى أبرز مفكري هذا الاتجاه مع ملاحظة قابلية تصنيف أي منهم ضمن اتجاهات أخرى ، حيث تتقاطع لديهم أفكار من عدة اتجاهات ، كالقومية والسلفية المستنيرة ، والاشتراكية ونحوها ، خاصة مفكري المرحلة التأسيسية بداية من منتصف القرن التاسع عشر : الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) قضى خمس سنوات في فرنسا ، اطلع فيها على الفلسفة الإغريقية ، ومناهج البحث ، والرياضيات ، وتاريخ الحضارات ، وقرأ كتابات لفولتير ، وراسين ، وروسو، ومنتسكيو. ثم بدأ في نقل حصيلة هذه المعرفة إلى المنطقة العربية عبر التأليف والتعريب فكتب \" تخليص الإبريز في تلخيص باريز\" عام 1834 وصف فيه تجربته وملاحظاته على الحضارة الغربية ممثلة في فرنسا إبان فترة دراسته هناك. كما كتب \" مناهج الآداب العصرية\" عام1869حيث قدم فيه عرضاً لأهم مفاهيم الفكر الليبرالي ، وقام بترجمة الدستور الفرنسي لعام1814. وعرف عنه انبهاره بالفكر الليبرالي وبقيم الحرية والمساواة ، وتقديره لقيمة الفردية والملكية الخاصة . محاولا التوفيق بين ذلك كله ومبادئ الدين الإسلامي. خير الدين التونسي (1810-1899) الذي زاوج بين الفكر والممارسة حيث تقلد منصب رئيس الوزراء في بلده تونس. عاش في فرنسا لمدة أربع سنوات . وأصدر كتابه الشهير \" أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك\" عام 1867 . ودعا إلى الاستفادة من الأفكار والمؤسسات الأوربية الحديثة . وتتطابق رؤيته مع الطهطاوي في أنه يمكن تحقيق ذلك في انسجام مع مبادئ الشريعة الإسلامية. ناصيف اليازجي : عمل باتجاه اليقظة القومية بإسهاماته في إحياء اللغة العربية ومن أهم أعماله \" مجمع البحرين\" الذي أعاد فيه إحياء فن المقامات. وكان ابنه إبراهيم اليازجي هو الذي أطلق تلك الصرخة القومية الأولى في بداية النهضة \" تنبهوا واستفيقوا أيها العرب \" . وعندما أطلق بطرس البستاني فكرة الرابطة الوطنية التي أسسها عام 1863 على مبدأ الحرية الدينية ومبدأ الجامعة الوطنية إثر صدام مع الإرساليات الإنجيلية التبشيرية التي نهجت نهجا تمييزيا دينيا في التربية شاركه فيها وكان بين أساتذة المدرسة الوطنية ، وقد عملا معا للتأكد من أن ينشأ طلبة المدرسة على مبدأ التسامح الديني والقيم الوطنية بطرس البستاني (1819-1893) أصدر أول نشرة سياسية أسبوعية بعنوان\" نفير سوريه \" عام 1860 وقد ناشد أبناء الوطن بعدم المزج بين الأمور الدينية والأمور السياسية والمدنية. وعمل في التأليف في خدمة الثقافة العربية فنشر قاموسه الشهير محيط المحيط في جزأين عام 1870 وموسوعة دائرة المعارف التي أصدر منها ستة أجزاء. كان بطرس البستاني كذلك قد أنشأ مجلة الجنان وحررها بين عام 1870 و 1886 مصدرا إياها بشعار \" حب الوطن من الإيمان \" وقد شدد على تعليم اللغة العربية وحقوق المرأة . ومن مآثره بهذا الخصوص \"خطاب في تعليم النساء\" طالب فيه بإعطاء المرأة حقها ومساواتها بالرجل . وقد قرن بين القومية والعلمانية ، فميز بين الأديان والمدنيات. وعلى أساس هذا التمييز تبنى الهيئة الاجتماعية والدولة الحديثة اللتين يكون بهما التمدن. وقد أسس مع ناصيف اليازجي عام 1847 جمعية الآداب والعلوم بالاشتراك مع مرسلين منهم كورنيلوس فان دايك و ايلي سميث . تلك الجمعية التي استبدلها بعد عشر سنوات بالجمعية العلمية السورية التي لا يقتصر أعضاؤها على المسيحيين. ومن مفكري هذا الاتجاه يعقوب صروف ، وفارس نمر اللذان انتقلا بمجلتهما العلمية \"المقتطف\" ( ظهرت في بيروت عام 1876 ) و جرجي زيدان الذي أصدر عام 1892 مجلة الهلال الشهيرة وكان بين زعماء الثورة الطلابية التي صدرت عام 1882 في الكلية السورية الإنجيلية ( سميت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت) وقد دعيا إلى استعمال اللغة العربية في التعليم وحرية الفكر والتعالي على الفروق الاجتماعية . ولقد دعا صروف لاعتماد العلوم الطبيعية والاجتماعية وإرساء أسس التحليل الاجتماعي للمعرفة مشيرا إلى مقولات ابن خلدون وهربرت سبنسر واوغست كونت . واعتبر أن هذه العلوم والصناعة هي أساس التقدم الحضاري الغربي ورأى أن شروط تحقق النهضة الاستعداد للارتقاء وعدم وجود عائق تراثي أولا، ثم وجود صفوة تضطلع بمهام الارتقاء والتقدم. كما دعا صروف للتحرر من التقاليد المعيقة للتقدم. كما اهتم قاسم أمين (1863-1908) بقضية تحرير المرأة فنشر في هذا المجال كتابين هما \"تحرير المرأة ( 1899) و \"المرأة الجديدة\" (1900) ورأى من خلالها أن هناك علاقة وثيقة بين إصلاح أوضاع المرأة وإصلاح أوضاع الأمة . والتلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة. وأرجع سبب الانحطاط إلى الجهل، ورأى أن ظلم المرأة من ظلم المجتمع وأنه مثلما تظلم المرأة من قبل العائلة يظلم الشعب من قبل الحاكم المستبد. كما دعا إلى التحرر من الماضي ، والتوجه إلى المستقبل وتبني العلم الأوربي ومبادئه أيضا إذ لا يرى معنى لتبني العلوم دون تبني الأخلاق. شبلي الشميل : نافح عن النظام الجمهوري ودعا إلى الثورة ودافع عن الحرية و الديموقراطية معتمدا منهج الفكر العلمي كبديل لفكر الغيبي المثالي حيث رأى في العلم السبيل إلى التقدم.درس الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج منها عام 1871 وتناول في أطروحته \" تأثر الإنسان والحيوان بالمناخ والطبيعة والبيئة\" وأقتنع بنظرية التطور ، وأصدر في مصر مجلة الشفاء ، ونشر كتابه الشهير\" فلسفة النشؤ والإرتقاء\" محدثا بذلك ضجة كبرى ، تعرض على إثره لانتقادات قاسية، ورد على منتقديه بكتاب أسماه \" الحقيقة\" وعدة مقالات نشرها في المجلات والصحف المصرية منها المقتطف والمقطم والهلال ومصر الفتاة. أحمد لطفي السيد (1872-1963) أحد أهم رموز الحركة التحديثية اللبرالية في المرحلة التأسيسية وما بعدها . نادى بالقومية المصرية مقابل الخلافة الإسلامية وأظهر تعلقا بفكرة الحرية، وتنديدا باستبداد الدولة . وقد ساهم في صياغة فكر حزب الأمة المصري وهو حزب النخبة وكبار الملاكين. ومن المفكرين التحديثيين الذين ذكرهم بركات \" نجيب عازوره (؟ - 1916) حيث تمحور فكره حول الفكرة القومية العربية العلمانية داعيا إلى فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية) . أسس عصبة الوطن العربي عام 1904 ، وأصدر مجلة الاستقلال العربي ، ووضع كتابا باللغة الفرنسية عام 1905 بعنوان يقظة الأمة العربية ، واتهم أوربا بإثارة النزاعات الطائفية والخلافات الداخلية. وشارك في المؤتمر العام الأول في باريس عام1913 . وفي مرحلة لاحقة أو مرحلة الصراعات كما يصفها حليم بركات برز اسمان اقترنا بكاتبين هزّا مصر والعالم العربي في ذلك الحين ، وأحدثا ضجة مازالت تتردد أصداؤها في الحياة السياسية والثقافية العربية حتى الآن . هذان الكتابان \"الخطيران\" هما \" الإسلام وأصول الحكم\" لعلي عبد الرازق ، و \" في الشعر الجاهلي\" لطه حسين. ويصف بركات الأجواء التي ظهر فيها كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق ( 1888-1966) بأنها أجواء صراع بين فكرة الخلافة الإسلامية المتمثلة بالقصر بدعم من علماء الأزهر ، والفكرة الوطنية الدستورية المتمثلة بحزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين. وتتلخص فكرة الكتاب الأساسية كما شرحها علي عبد الرازق بقوله\" إن الإسلام لم يقرر نطاقا معينا للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم الدولة طبقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي نوجد فيها ، مع مراعاة تطورها الاجتماعي ومقتضيات الزمن. أما فكرتي في الخلافة فهي أنها ليست نظاما دينيا ...وان الدين الإسلامي برئ من نظام الخلافة \" ولم يكتفي عبد الرازق بنفي وجود نظام إسلامي محدد للحكم ، بل توصل أيضا إلى أن الخلافة ليست أمراً ضروريا للعباد والخير العام ، والى أن سلطتها كانت في الواقع مضرة بالإسلام، والى انه ليس في الإسلام ما يمنع من قيام نظام سياسي جديد . واثر صدور هذا الكتاب ثار الأزهر ، وتمت محاكمة علي عبد الرازق، أمام كبار هيئة علماء الأزهر التي ينتمي إليها، وقضت بإجماع أربعة وعشرين عالما بإخراجه من عضويتها، وبحرمانه من أي منصب عام. فعاش بقية حياته في عزلة. وترتب على هذا الحكم كما ورد في قرار هيئة العلماء محو اسم عبد الرازق من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى ، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته من أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية أو غير دينية. أما طه حسين (1889-1973) فقد أثار ضجة كبرى بكتابه \" في الشعر الجاهلي\" (1926) لم تقتصر هذه على المضمون فقط وإنما تعدته إلى المنهج حيث يبنى المنهج الجدلي الديكارتي القائم على الشك ، متخذا منه أداة للنفاذ لأسس سائدة في الحياة الثقافية والعقدية، مركزا على قضية التحديث الفكري أو ما أسماه معركة القديم والجديد حيث نفى كثيرا من البديهيات في الحياة الثقافية. وبطبيعة الحال جوبه هذا الكتاب بعاصفة كبيرة من الازدراء ، وحمل على مؤلفه حملة شعواء شرسة، قام صاحبه على أثرها بسحب الكتاب وتعديله ، وإعطاؤه عنوان جديد هو \" في الأدب الجاهلي\" . وعلى أثر ذلك قام الأزهر بتكوين لجنة منه ، خلصت إلى تكفير طه حسين ، وارتداده عن الدين انطلاقا من ثلاث مسائل وردت في كتابه آنف الذكر. كما ناقش البرلمان المصري برئاسة سعد زغلول الكتاب وأمر بمصادرته وإتلافه وإحالة طه حسين على النيابة بدعوى الطعن في الدين الإسلامي. مما اضطر طه حسين لنشر طبعة جديدة بعنوان في الأدب الجاهلي حذفت منه بعض المواد التي لاقت امتعاضا شديدا ومنها المواد المتعلقة بإبراهيم وإسماعيل. ولد طه حسين في بلدة صعيدية ، والده موظف صغير، وهو الولد السابع في أسرة أنجبت ثلاثة عشر طفلا، درس في كتّاب القرية ، ثم التحق بالأزهر بين عامي 1902 و 1908 وانتقل منه إلى الجامعة الأهلية الحديثة ، وتابع دراسته في فرنسا حيث تخرج من السوربون. وقد قرأ كتابات كونت ورينان واناتولي فوانس ، واميل دوركايم. وكانت أطروحته للدكتوراه حول ابن خلدون. وعاد إلى مصر عام 1919 ليدرس في الجامعة المصرية . ورغم الضجة التي أثيرت حوله، تولى مناصب رفيعة منها عمادة كلية الآداب (1928-1936) فرئاسة جامعة الإسكندرية ، فمنصب المستشار الفني لوزير التربية والتعليم ، فوزير التربية والتعليم(1950-1952) أي قبل ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو من تلك السنة. ولقد قال بالقومية المصرية معتبرا الرابطة الوطنية القائمة على وحدة المنافع الاقتصادية والوحدة الجغرافية أولى من الرابطة الدينية واللغوية. وقال بالاعتدال والإصلاح من دون اللجؤ إلى العنف للخروج من حالة التخلف الحضاري. وقد حمل لقب بك ثم لقب باشا وأقيل من عمادة كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1932 لانحيازه إلى حزب الوفد ووقوفه إلى جانب المطالب الشعبية. وله العديد من الكتب ولعل أكثرها شهرة بعد كتابه في الشعر الجاهلي هو كتابه\" مستقبل الثقافة في مصر (1938) حيث أكد فيه على مصرية مصر كهوية وأنها أي مصر جزء من أوربا، وعلى ضرورة أن يسير المصريون على نهج الأوربيين. ومع ذلك يعتبره حليم بركات \"بين طليعة أصحاب الفكر العربي التنويري في القرن العشرين ، حيث نادى بالعقلانية والحرية حتى في زمن الثورة المصرية\" يتبع [email protected]