لم تبهرني شخصية قدري حافظ طوقان عندما قابلته للمرة الأولى في عام 1948، أي منذ نصف قرن تماماً، فقد كان منكوش الشعر، قصير القامة، واضح التوتر والانفعال، قليل الحفاوة بهندامه، حاسماً باتراً في كلامه، فلا يتيح لأحد أن ينازعه في الحجج التي يسوقها لثقته التامة، في أن كل ما يصدر عنه قولاً إنما هو كالمعادلات الرياضية التي لا تخطيء. وقد عزوت هذا التوتر وذاك الانفعال إلى النكبة النكباء التي حلت بوطنه وزلزلت جنبات العالم العربي كله، إذْ كنّا وقتها في شهر تشرين الأول اكتوبر أي بعد خمسة أشهر من كارثة فلسطين عندما هبط القاهرة قدري حافظ طوقان للمشاركة في مؤتمر علمي، وكان من عادته - حسب تعبيره - أن يحج إلى دار مجلة "المقتطف" كلما زار القاهرة، لأنها المجلة التي احتضنت آثاره العلمية منذ عام 1930، أي بعد سنة واحدة من تخرجه بدرجة بكالوريوس في العلوم الرياضية من جامعة بيروت الأميركية، وهي المجلة التي استكتبته فصلاً في كتاب "نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية" بالمشاركة مع الدكاترة زكي محمد حسن وعبدالوهاب عزام وإسماعيل أحمد أدهم والاستاذ اسماعيل مظهر لتقديمه كهدية "المقتطف" السنوية لقرائها في عام 1938، وهي المجلة التي احتفت بكتابه الباذخ الرائد "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك"، فنشرته في عام 1941 لتقديم هدية إلى قرائها في تلك السنة. وكنت وقتها من العاملين في "دار المقتطف والمقطم" وكانت غرفتي ملاصقة للغرفة الوحيدة التي تحملها مجلة "المقتطف"، فكان طبيعياً أن التقي قدري حافظ طوقان في زياراته المتكررة للمجلة حيث أهداني كتابه "بين العلم والأدب" الصادر عن مكتبة فلسطين العلمية في القدس في عام 1945 وكذلك محاضرته المنشورة عن "الاسلوب العلمي عن العرب" التي ألقاها في كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة الآن عام 1946 بوصفها المحاضرة السابعة في سلسلة محاضرات ابن الهيثم التذكارية. ولكن الطابع الجاد الذي بادَهَني في قدري حافظ طوقان سرعان ما تكشف عن روح مرحة، فإذا الكلفة مرفوعة، وإذا المشاعر الودية غالبة، وإذا الأخوّات مبذولة بغير تحفظ. على أن استغراقه في المباحث العلمية ومهام التدريس وانشغاله بهموم أمته وحرصه على المشاركة في المؤتمرات العلمية العربية والأوروبية أنسته أن يلتفت إلى حياته الخاصة، فقضى عمره بغير زواج، وعاش في مدينته نابلس كالناسك في محراب، مختصراً كل حياته في القراءة والكتابة، مزورّاً عن الأنشطة الاجتماعية التي لا يرى منها جدوى، ولكن إن ناداه داعي الوطن لبى دعوته، فانتخب عضواً في البرلمان الأردني مرتين، واختير وزيراً للخارجية في الأردن في عام 1964. كما أن التزامه بالمباحث العلمية لم يحل دون تفكيره في مستقبل أمته بعد كارثة فلسطين، فوضع كتاباً عنوانه "وعي المستقبل" يرسم فيه للعرب أسلوباً للعيش يخرجهم من وهدة الهزيمة، ووضع كتاباً آخر عنوانه "بعد النكبة" أكد فيه على "ان العلم والأسلوب العلمي والحرمان من مظاهر الترف والايمان بحق الحياة هي الاركان التي يقوم عليها الخلاص والكرامة والكيان الوطني. وهذا ما يجب أن يتفهم العرب ويؤمنوا به ويعملوا على تحقيقه في سائر الديار والأمصار". صدرت بعد النكبة طائفة من الكتب التي تعتبر نقداً للذات ومحاولة لاستخلاص العبر من هذه الداهية الدهياء، فأصدر الدكتور قسطنطين زريق كتاب "معنى النكبة"، وأصدر عارف العارف كتاب "النكبة"، وأصدر نمر الخطيب كتاب "من أثر النكبة"، بل ذهب الدكتور صالح الأشتر إلى تبيان أثر النكبة في الشعر فأخرج كتابه "في شعر النكبة"، ولم يتخلف قدري حافظ طوقان عن الادلاء بدلوه في هذه السلسلة من كتب النكبة، ولا سيما لأنها تمس وطنه في الصميم. كان قدري حافظ طوقان من أوائل الذين نبهوا إلى فضل العرب في تطوير العلوم وإنهاضها، فاعتُمدت كتبه كمراجع موثوق بها في تاريخ العلوم العربية وفي الموسوعات مثل "موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين" التي وقف على إعدادها ونشرها الدكتور رؤوف سلامة موسى. ولا غرو، فقد آمن قدري طوقان بأن رسالته الأولى في الحياة هي التعريف بآثار العلماء العرب، وبما كان لكثيرين منهم من سبق في الاهتداء إلى النظريات العلمية وفي الكشوف الخاصة بالفلك وهندسة الكون. ولا عجب ان يكون هذا العالم المتنسك في نابلس - وما هي بحاضرة أو عاصمة كبرى - كسباً للمجامع والهيئات العلمية، فاختير رئيساً للجمعية الأردنية للعلوم، وللاتحاد العلمي الأردني، ونائباً لرئيس الاتحاد العلمي العربي في القاهرة، ومستشاراً للدراسات العربية في معهد آسيا في نيويورك، وعضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق مجمع اللغة العربية في دمشق الآن، وفي مجمع اللغة العربية في القاهرة، وفي المجمع العلمي لدول البحر المتوسط في ايطاليا، وفي جمعيات العلوم الرياضية في أميركا وانكلترا، وفي المجلس الأعلى للتعليم في الأردن، وفي مجلس امناء الجامعة الأردنية، وفي اللجنة القومية لليونسكو في الأردن. وكانت له مشاركات في أكثر من 20 مؤتمراً علمياً في عواصم العالم المختلفة، ومُنح أوسمة رفيعة من مصر والأردن والمغرب، كما منحته جامعة البنجاب الباكستانية درجة دكتوراه الفخرية في عام 1965. ولد قدري حافظ طوقان في مدينة نابلس في عام 1910 ودرس في مدارسها حتى استكمل دراسته العليا في بيروت وعاد في عام 1929 ليعمل مدرساً في كلية النجاح الوطنية في نابلس، وعيّن مديراً لها بعد استقالة مديرها السابق في عام 1950. وقد تحولت كلية النجاح في ما بعد إلى جامعة، وليتهم أطلقوا عليها اسم قدري حافظ طوقان، لأنه بذل في سبيل النهوض بها ودعم مناهجها وتعزيز مرافقها وإغناء مكتبتها همّة امتدت على مدى العمر كله. وشارك قدري حافظ طوقان في الحركات الوطنية في فلسطين وفي المظاهرات التي نُظّمت والمؤتمرات السياسية التي انعقدت مما عرضه للنفي تسعة أشهر في الحفير وصرفند. وعندما قابلت الشاعرة فدوى طوقان للمرة الأولى في شهر أيار مايو من العام الماضي في باريس، وكانت وقتها تشارك في مهرجان الربيع الفلسطيني الذي أقامه معهد العالم العربي، وقلت لها إنني كنت صديقاً لابن عمها قدري حافظ طوقان، ارتفعت قامتي في نظرها، لأن قدري حافظ طوقان مفخرة لأسرته وعلى الصعيدين المحلي والقومي. وكنت سألت قدري حافظ طوقان: هل كان اختياره في عام 1964 وزيراً لخارجية الأردن وضعاً للرجل المناسب في المكان المناسب؟ أَوَ لم يكن منصب وزير المعارف أو الثقافة هو الأحق بشغله؟ فأجاب بقوله إنه لم يسع إلى المنصب، وإنما جاءه المنصب كتكليف قومي، فلم يشأ أن يتقاعس عن النهوض به، ولا سيما لأن الوزارة تعد امتداداً طبيعياً لمن انتخب مرتين عضواً في البرلمان الأردني. وقال إن توليه مقاليد وزارة الخارجية هيّأ له فرصة اصلاح كل ما أفسدته السياسة بين الدول العربية، فقام بإعادة ما انقطع من علاقات، وتعزيز ما تراخى منها، وجَعَلَ وَكْدَهُ وَهَمَّهُ ان تكون العلاقات الرسمية بين الدول العربية والأردن على أعلى مستوى وأطيبه. وقال إنه بتحقيق هذه الغاية لم تعد له مطامع في المناصب الوزارية، فتركها بكل طقوسها البروتوكولية الشكلية وبكل مناوراتها اللولبية لكي يتفرغ لكتبه وأوراقه، ثم استدرك قائلاً: أيهما أنفع لبلادي وأمة العرب؟ أن أشغل منصباً إدارياً كوزير للمعارف أو الثقافة، أو أن أخرج ذخيرة من المؤلفات العلمية التي تذكر بماضي العرب المجيد، وتحدو الهمم إلى مستقبل أمجد وأبعد اشراقاً؟ تأمل لائحة كتبي حيث أضفت إلى المكتبة العربية عدا ما سلفت الاشارة إليه المؤلفات التالية: مقام العقل عند العرب، والعلوم عند العرب والمسلمين، والاسلوب العلمي عند العرب، وأثر العرب في تقدم علم الفلك، وابن حمزة والتمهيد إلى اللوغاريتمات، والعلوم عند العرب، والخالدون العرب، والروح العلمية عند العرب والمسلمين، وحيوية العقل العربي في نقد الفكر اليوناني، وأبو الريحان البيروني، والكون العجيب، والعيون في العلم، وبين البقاء والفناء، والنزعة العلمية في التراث العربي، ونشاط العرب العلمي مع آخرين، وجمال الدين الأفغاني. ثم قال: إن وزير المعارف أو الثقافة يستطيع أن يرسم سياسة عامة لوزارته، ولكن هل يستطيع ان يُخرج لأمته مثل هذا القدر من المؤلفات، وهي مصنفات توخيت في كتابتها منهاج التبسيط حتى لا تستعضل قراءتها على طالب علم؟ ولا تنس ما كتبته من عشرات من المقالات العلمية في المجالات الثقافية ولا ما ألقيته من محاضرات علمية من منابر كثيرة. ولو قد مد في عمر قدري حافظ طوقان لأغنى الضاد بمزيد من مؤلفاته العلمية، ولكن الأقدار لم تمهله إلا واحداً وستين عاماً، إذ توفي في بيروت في السادس والعشرين من شباط فبراير 1971 وهو يعالج من أزمة صحية أصابته قبل أن يركب الطائرة متوجهاً إلى القاهرة للمشاركة في المؤتمر السنوي لمجمعها. ولعلّ من أكبر العلماء الذين عرفتهم مصر الدكتور علي مصطفى مشرفة باشا 1898 - 1950 الذي تتلمذ على العلامة البرت اينشتين 1879 - 1955 صاحب نظرية النسبية. وصار مشرّفة يعرف باينشتين المصري. وقد احتفى مشرفة بكتاب "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" لقدري حافظ طوقان فكتب في تقديم الكتاب يقول: "ليس بغريب أن تتوافق خواطري مع خواطر طوقان، إذ بيننا صلة قوية، هي صلة الثقافة العربية التي يجري دمها في عروق المصري والشامي والعراقي والمراكشي على السواء... وقد قرأت الكتاب فوجدته قد جمع بين الدقة العلمية واللذة الفكرية... وانني أهيب بكل ناطق بالضاد ان يقرأ هذا الكتاب وأن يمكّن النظر فيه وأن يتشبه بروحه... انني أشعر وأنا أكتب هذه الكلمة ان عصراً جديداً قد بدأ في الشرق يشبه عصر النهضة في أوروبا. فكما ان الأوروبيين عندما أفاقوا من قرونهم الوسطى عهدوا إلى إحياء ماضيهم، فبعثوا الثقافة الاغريقية وجعلوا منها أساساً لنهضتهم، كذلك نحن في المشرق قد هدانا وحي السليقة إلى منابع عظمتنا، فرجعنا إلى ماضينا ليكون قاعدة لصرح تقدمنا". وفي 15 شباط فبراير 1972 أقام مجمع اللغة العربية في القاهرة حفلاً لتأبين قدري حافظ طوقان تحدث فيه زكي المهندس نائب رئيس المجمع، فقال: "إن الفقيد كان من رجال العلم القلائل الذين اجتمعت لهم دقة العالم وخيال الأديب، وعهدنا بكثير من رجال العلم أنهم لا يحفلون بالأدب ولا يقيمون له وزناً في حياتهم... كان عالماً أديباً وأديباً عالماً. وإذا كان العلم يمثّل العقل الإنساني في أعمق صوره، فإن الأدب يمثل العاطفة الإنسانية في أنبل صورها ومظاهرها". ورثاه عالم النبات الدكتور عبدالحليم منتصر 1908 - 1992 بقوله إنه "كان خير سفير علمي للفكر العربي في الدول الأجنبية... إن فقيدنا العظيم ليدعو الأمة العربية إلى الأخذ بالروح العلمية التي تجلت في التراث العربي عند العلماء العرب والمسلمين، تلك الروح التي تمجد العقل وتدعو إلى التجربة والتجديد واحترام الأمانة العلمية والاخلاص للحق والحقيقة وتقديس حرية الفكر، والانعتاق من اغلال التقليد، وتدفع إلى التطور، وبذلك يدفع المجتمع العربي إلى التقدم المستمر والنمو المتواصل، وتحول دون تعطيل العقل وتجميده، فينطلق متحركاً خلاقاً منتجاً في سائر ميادين الحياة". وعندما اختار مجمع القاهرة الدكتور ناصرالدين الأسد، أطال الله بقاءه، خلفاً لقدري حافظ طوقان في عضوية المجمع، خاطب زملاءه المجمعيين بقوله: "اشفقت على نفسي الاشفاق كله أن أخلف في مجمعكم عضواً كان لاسمه من الدويّ في أقطار وطننا العربي وفي بعض الهيئات العلمية الأجنبية ما يجعله أكبر من كلمة يقولها فيه مثلي. وهل في بلادنا العربية بين مثقفيها وعلمائها وأدبائها من لم يسمع باسم قدري حافظ طوقان، ومن لم يقرأ له بعض نتاجه العلمي؟". وأشار الدكتور الأسد إلى أن لقدري حافظ طوقان خصائص أساسية في كل انجازاته تتمثل في عنايته المتصلة بالتعريف بتراث العرب العلمي في شتى ميادينه، خصوصاً في الرياضيات والفلك، ودعوته الدائبة إلى وصل حاضرنا بماضينا الزاهر، والسعي إلى تبسيط المعرفة العلمية وتقريبها إلى عقول الناشئة، وحرصه على إشاعة المعرفة العلمية وجعلها جزءاً من ثقافة المرء العامة ومن تكوينه العقلي والخلقي وأسلوبه في التفكير". وأشاد الدكتور الأسد بجهود قدري حافظ طوقان في سك المصطلحات العلمية السائغة بما يتفق مع فلسفة اللغة العربية. وإلى جانب هذه الشهادات العربية بفضل قدري حافظ طوقان، فقد حظي بتقدير العلامة الأميركي جورج سارطون صاحب الكتاب العمدة "تاريخ العلم" الذي لا يقل انصافاً للعلماء العرب والمسلمين عن كتاب "تراث الإسلام" للمستشرقين شاخت وبوزورث.