عرفت اسماعيل مظهر في مجلة "المقتطف" التي عمرت 77 عاماً منذ انشائها في عام 1876 والى توقفها عن الصدور في آخر عام 1952، وهي مجلة اصدرها في بيروت الدكتوران فارس نمر 1856 - 1951 ويعقوب صروف 1852 - 1927 بوصفها "جريدة علمية صناعية" كما طُبع على الصفحة الاولى من العدد الأول. وازاء مضايقات سلطات الدولة العثمانية الحاكمة، نقلا المجلة الى القاهرة في عام 1885 حيث انضم الى اصحابها شاهين مكاريوس 1853 - 1910. وكان اسماعيل مظهر رابع رئيس تحرير لهذه المجلة بعد يعقوب صروف وابن أخيه فؤاد صروف 1900 - 1985 والدكتور بشر فارس 1907 - 1963. وكنت، في ذلك الوقت اعمل محرراً في "دار المقتطف والمقطم"، ولم يكن باقياً على قيد الحياة من اصحاب الدار سوى الدكتور فارس نمر الذي عمّر خمسة وتسعين عاماً. جاء اسماعيل مظهر الى "المقتطف" في عام 1945 وكان وراءه تاريخ حافل بالتمرد، يشهد على ذلك انه، وان كان ينتمي الى اسرة ذات وجاهة وسراوة، الا انه انشغل بالتيارات الاشتراكية ووضع في ذلك عدة كتب منها "عصر الاشتراكية" و"التكافل الاشتراكي لا الشيوعية"، و"الدين في ظل الشيوعية" وغيرها. كما انه فُتِن بنظرية داروين في النشوء والارتقاء، فترجم كتابه بعنوان "أصل الانواع"، وألّف عن النظرية كتاباً عنوانه "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء"، ما عرضه للاتهام بالمروق. وعندما اصدر اسماعيل مظهر مجلة "العصور" بين عامي 1927 و1931 فتح أبوابها لمصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937 لمهاجمة غريمه عباس محمود العقاد 1889 - 1964 بأسلوب شديد الإقذاع حيث وضع العقاد "على السفود" كي يشويه بناره الحارقة بلا رحمة. ولم يجرؤ الرافعي على توقيع هذه الفصول باسمه الصريح تهيباً لصولة العقاد، فظُن في بادئ الأمر ان كاتبها هو اسماعيل مظهر نفسه، ولكن أسلوب الرافعي المأثور عنه وشى به ودل عليه. وكانت مجلة "المقتطف" مشهورة بالاعتدال، فتتفادى الموضوعات التي تثير جدلاً سياسياً أو مذهبياً أو دينياً، وتمتنع عن التجريح أو الاتهام، ولكن اسماعيل مظهر، الذي سبق له ان كتب في المجلة عشرات من الفصول منذ عام 1919، لم ير ان يتقيد بهذه السياسة التقليدية المحافظة، ولا استطاع ان يتخلص من تمرده، فاحتفى احتفاءً عريضاً بكتاب "هذي هي الاغلال" لعبدالله القصيمي ت 1996 وعقد عليه افتتاحية عدد من اعداد المجلة مع ان الكتاب اثار عواصف من الجدل. ومضى اسماعيل مظهر في تمرده فهاجم الدكتور طه حسين 1889 - 1973 هجوماً شرساً في المجلة بسبب قبوله العمل في تحرير مجلة "الكاتب المصري"، وهي مجلة كانت تمولها دار نشر يهودية. ولما ضاق صاحب "المقتطف" بتمرد اسماعيل مظهر الذي خرج عن السياسة المرسومة للمجلة اعفاه من رياسة تحريرها في عام 1949 وخلفه في العمل نقولا الحداد 1870 - 1954، وبعده جاء اسبيرو جسري الذي غيّر اسمه الى سامي الجسري وهو الذي عمل في المجلة سنوات طويلة كسكرتير لتحريرها، فكان آخر من تولوا رياسة تحريرها، وعلى يديه أغلقت المجلة نهائياً في كانون الأول ديسمبر 1952. واستحدث اسماعيل مظهر في اثناء عمله في المجلة "لواصق" أو ملاحق تضاف الى كل عدد يتضمن كل منها كتاباً كاملاً أو فصولاً من كتاب تستكمل في ملحق الشهر التالي، وهكذا كان القارئ يحصل على مجلة وكتاب في كل عدد. كما كانت المجلة تصدر شهرياً عشر مرات في السنة وتحتجب في شهري الصيف ثم تعوض مشتركيها عن هذه العطلة بكتاب بحجم عددين، فانتهز اسماعيل مظهر هذه الفرصة وأهدى الى القراء ما جمعه من كتابات استاذ الجيل الدكتور احمد لطفي السيد باشا 1872 - 1963 - وهو واسماعيل مظهر ينتميان الى قرية برقين من اعمال محافظة الدقهلية، وكان مظهر متزوجاً من شقيقة لطفي السيد. اما الكتابان اللذان نشرهما للطفي السيد ووزعا كهدية من مجلة "المقتطف" فهما الجزء الثاني من كتاب "المنتخبات" وكانت دار المعارف اصدرت جزءه الأول وكتاب "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر". لم تنته صلتي باسماعيل مظهر بخروجه من "المقتطف" بل بقيتُ موصول الاسباب به، سواء عندما كلفني تلفزيون الظهران بتسجيل خمسة احاديث علمية له، أو عندما كلفتني مجلة "قافلة الزيت" التي كنت أمثلها في مصر ان استكتبه فيها، او عندما تعاونتُ معه عند اختياره رئيساً لتحرير "الموسوعة العربية الميسرة" فأعددتُ البنود التي اندرجت فيها عن الصحافة والصحف والصحافيين على الصعيدين العالمي والعربي، وهي الموسوعة التي ظهرت بعد وفاة اسماعيل مظهر، واستكمل العمل من بعده زميله في رياسة التحرير المؤرخ عبدالرحمن زكي 1904 - 1980 وأشهد ان اسماعيل مظهر، برغم تمرده وعنفه في بعض ما كتب، كان رجلاً هادئ الطباع يتحلى بأخلاق النبلاء، ويتجمل بالتواضع الحميد، ولا يتحدث الا عن علم وبصوتٍ خفيض، ولا تزدهيه امجاده التي تتمثل في المعاجم التي صنفها والكتب التي ألفها وترجمها، وهي ضخام حجماً وموضوعاً. وكان بصورة عامة زاهداً في الوظائف التي تسمره في مقعده وتلزمه بالمحافظة على مواعيد منتظمة في الدخول والخروج، اذ كان يؤثر العمل في بيته بين كتبه ومراجعه، كما كان يقضي في ضيعته الخاصة في برقين شطراً من أوقاته. ولد اسماعيل مظهر في القاهرة في الثامن من كانون الثاني يناير 1891 وتعلم - كما اخبرني بذلك - على مشايخه في حي الحلمية الجديدة حيث كان يقيم، وهو حيٌّ قريب من الازهر ومن اقدم احياء القاهرة. ولما بلغ اشده، قرر اصدار جريدة اسبوعية في عام 1907 اطلق عليها اسم "الشعب"، لكنه اضطر الى اغلاقها كي يسافر في العام التالي 1908 الى انكلترا للدراسة في جامعتي لندن وأكسفورد، وبقي هناك حتى عام 1914 ثم عاد الى مصر ومعه شهادة في علم الاحياء. بعد عودته اصدر مجلة "العصور" وحرر مجلة "المقتطف" وعمل خبيراً في لجان مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وساعد المستشرق الالماني أوغست فيشر 1865 - 1949 في اعداد معجمه اللغوي التاريخي الذي قضى أربعين عاماً في تصنيفه ولم يخرج الى الوجود لا في حياته ولا بعد وفاته. وفي عام 1961 انتخب اسماعيل مظهر عضواً عاملاً في مجمع القاهرة، ولكن عضويته لم تطل لانه لحق بربه في الثالث من شباط فبراير 1962. وكانت جريدة "الاخبار" تنشر يوميات اسماعيل مظهر في سنوات عمره الاخيرة. انجب اسماعيل مظهر ابنين هما جلال ت 1988 الذي كان حرياً بأن يكون امتداداً لأبيه في اهتماماته الفكرية والعلمية. حيث اشترك مع ابيه في ترجمة كتاب "احداث شهيرة من التاريخ"، وانفرد بنشر عدة كتب منها "مآثر العرب على الحضارة الاوروبية" و"علوم المسلمين اساس التقدم العلمي الحديث" وترجم كتاب "عمالقة العلم". ولكنه سرعان ما برم بركود الحياة الفكرية وسيطرة الفكر الدعائي الاعلامي على الحياة الثقافية، فاعتزل في الضيعة في برقين يربي الدجاج. ولما سألته عن هذا التحول في حياته قال انه يتكيف مع طبائع الدجاج بأيسر مما يتكيف مع طبائع البشر، وان حياة الريف ببساطتها اهنأ من حياة المدن بكل ضجيجها وصخبها ومنافساتها التي تُقطع فيها الرقاب، حسب التعبير الانكليزي. ولما سألته: ألا تحن الى الكتب والأوراق؟ قال في نغمة يائسة: وما الفائدة من علم لا ينتفع به الا صاحبه؟ فان سكبناه على الورق لم نجد ناشراً ولا قارئاً الا بشق الانفس. فدعني يا صاحبي أربي الدجاج وأحصد بيضه كل صباح، وسوقه رائجة بحمد الله. واما النجل الثاني عقيل مظهر فقد كان من الضباط الاحرار الذين نُقلوا بعد ذلك الى وظائف مدنية، فعين سكرتيراً لمحافظة الدقهلية. ولم يشأ عقيل ان يفوّت هذه الفرصة، فعمل على اقامة احتفال كبير تخليداً لذكرى ابيه، ابن الدقهلية الوفي، شارك فيه اصدقاء اسماعيل مظهر وهم محمود تيمور 1894 - 1973 والدكتور محمد صبري السوربوني 1894 - 1978 والمؤرخ عبدالرحمن زكي والمؤرخ محمود الشرقاوي ت 1972 والأديب محمد عبدالحليم عبدالله 1913 - 1970 وكاتب هذه السطور. وعندما توفيت أرملة اسماعيل مظهر، توجهتُ الى سرادق العزاء حيث استقبلني جلال. ولما سألته عن شقيقه عقيل، أشار الى شيخ يعتمر عمامة خضراء ويطلق لحيته بغير تشذيب ويرتدي جلباباً قصيراً ويحيط خصره بحزام من الجلد تتصل به حقيبة صغيرة، وقال لي: لقد اصبح شيخ طريقة من الطرق الصوفية! فقمت اليه - وقد اختلف مظهره عليّ - وتبادلنا العناق والقبلات، وقلتُ في سري: ما أعجب تصاريف هذا الزمان! لقد كانت تُهمة المروق تطارد اسماعيل مظهر، وها هو ابنه يتحول الى شيخ من شيوخ الدين. وعندما زرت اسماعيل مظهر في بيته اطلعني على آلاف من الجذاذات التي اعدها واستعان بها في تصنيف عدد من المعاجم اهمها "قاموس النهضة" الانكليزي/ العربي في جزءين و"قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية" و"معجم الثدييات". وقال لي ان "قاموس النهضة" ما كان ليرى النور لولا انه ارتضى ان يطبع على غلافه عبارة "راجعه باذن خاص من وزارة التربية والتعليم محمد بدران وابراهيم زكي خورشيد" والأول مراقب عام للثقافة والثاني مدير لادارة الترجمة. فبسبب التكلفة الباهظة لاصدار المعجم، ارتأى الناشر مفاتحة وزارة التربية والتعليم في شراء بضع مئات من النسخ لتوزيعها على المدارس والمعاهد والكليات، ولكن الوزارة اشترطت للموافقة على هذا الطلب مراجعة المعجم بوساطة هذين الخبيرين. وأكد لي مظهر ان هذه المراجعة لم تتم ابداً، وانما كانت اجراءً شكلياً ارتضاه مُذعناً في سبل طبع معجم. ومن الكتب الاخرى التي اصدرها اسماعيل مظهر، عدا ما سبقت الاشارة اليه، "تجديد العربية" و"قصة الطوفان" و"نزعة الفكر الأدبي في القرن التاسع عشر" و"نهضة فرنسا العلمية في القرن التاسع عشر" و"تاريخ الفكر العربي" و"معضلات المدنية الحديثة" و"وثبة الشرق في الانقلاب التركي عقب الحرب العالمية الأولى" و"القانون والحرية" و"فك الاغلال: رأي في التربية والتعليم" و"بذاءة عصر البطالمة" و"مصر في قيصيرية الاسكندر المقدوني" و"فلسفة اللذة والألم" و"المرأة في ظل الديموقراطية". كما ترجم عدداً من الكتب منها "حياة الروح في ضوء العلم" و"نشوء الكون" و"بين العلم والدين" و"سير ملهمة" ويضم سيراً لعلماء غربيين قام بترجمتها الى جانب سير لعلماء من العرب من تأليفه. كما كانت له عناية بالفن القصصي فنشر مجموعة عنوانها "رؤيا هناء" ورواية "الحب الأول: قيصر وكليوبطره". وقد مرت في عام 1991 الذكرى المئوية لميلاد اسماعيل مظهر، فلم تحرك ساكناً. وما اكثر المنسيين في حياتنا الفكرية المعاصرة.