يعترف العراقيون بأنه لم يمرّ في تاريخهم حكم أودى بحياة هذا القدر من الناس وأباح الى هذه الدرجة اموالهم واعراضهم مثل حكم البعث ورئيسه صدام. فالذين ماتوا لإشباع جنون عظمة شخص واحد تجاوزوا المليون منذ زمن بعيد، اي ما يزيد على خمسة في المئة من عدد السكان. واذا اضفنا الى هذا عدد المعوقين فان العدد يتضاعف الى ما لا يستطيع احد تقديره تماماً غير النظام القائم المتواظب على اخفائه. ولو تجاوزنا القتلى والمعوقين الى المشوهين نفسياً والمنكوبين في حياتهم وآمالهم ومستقبلهم والمفجوعين في اقربائهم واحبائهم والمشردين على ارصفة شوارع العالم والمتضررين مادياً من مغامرات "صاحب الحسابات الدقيقة"، يصعب ان نجد بين العراقيين عدداً يتجاوز خمسة في المئة ممن نجوا بشكل من الاشكال من كل هذه المصائب والمصاعب. مع ذلك فان النظام باق ٍ ومستمر وكأنه يريد تحقيق ما كان يحلو لأقطابه ان يكرروا مقولة رئيسه اثناء الحرب العراقية - الايرانية من "ان الذي يأتي بعدنا لن يجد غير التراب". ارض تخلو من البشر، هجرها سكانها. وأية هجرة! فهذه الجملة الغامضة لم تكن تعني غير دفع العراقيين الى الموت في الحرب وباسمها. انها الوحشية عينها تجاه العراقيين بكل ما في الوحشية من معان وابعاد. ولن يستمر بقاء النظام الا بالاعتماد على اسلوبه في القتل والقمع، الذي نجح فيه خلال ما يقرب من ثلاثين عاماً. ومنذ الضربة التي تلقاها في عام 1991 عاد وقوّى نفسه من جديد وثبّت اركانه في مناطق فقد سيطرته عليها اثر الانتفاضة. ورأينا خلال هذه السنوات كيف انه لم يغيّر اسلوبه وطريقة حكمه للعراقيين الذين اصبحوا رهائنه وضحايا بقائه. فهو يدرك ان لا بقاء له من غير القمع والقتل ما دام المتضررون منه تجاوز عددهم الاغلبية الغالب من العراقيين. وتأتي مأساة العراقيين من استعمال النظام بنجاح هاجس الخوف - عربياً اكثر منه عراقياً - من تقسيم العراق. ذلك لأن مسألة وحدة العراق اصبحت الحجة التي تدفع بالكثير من العرب للوقوف بشكل مباشر او غير مباشر مع النظام وبالتالي مع استمرار معاناة العراقيين. فالعراقيون الذين يعانون كل يوم جور الظروف التي خلقها النظام لهم، لا يفكرون الا بالخلاص من هذه الظروف وبأي ثمن كان. فلا شيء يوازي عندهم لقمة العيش وشيئاً من الكرامة اليومية والاحساس بلذة العيش. واذا افتقد الانسان هذه الضرورات، فما الذي تعني بالنسبة اليه وحدة الارض والشعب التي فقدها فعلاً منذ زمن؟ ويبقى النظام العراقي المتمسك الاول بأسطورة وحدة العراق هو المسؤول الاول عن قتل العراقيين وسحقهم في الماضي والحاضر والمستقبل. وما تمسكه بهذه الاسطورة الا تمسكه ببقائه في الحكم. فلو خُيّر بين البقاء وخلاص العراقيين من الجحيم الحالي مع حفاظهم على وحدة البلاد، فهل يترك الحكم؟ سؤال ساذج بالطبع لكنه يحمل بعض الدلائل لاولئك العرب، رسميين وغير رسميين، ممن يتباكون على آلام العراقيين ليل نهار، ولا يترددون في التراجع عن ذرف الدموع حين تُطرح مسألة وحدة العراق او انقسامه. واذا بهم يتحولون الى ابواق صاعقة وعدوانية تنادي بحمل السيوف دفاعاً عن دولة عربية مهددة! وهكذا ينسون من بكوا عليه ويفضلون بقاء النظام وان كان في هذا البقاء استمرار لبؤس العراقيين. لا احد يشك في ان آخر ما يفكر فيه الاميركيون هو مصلحة الشعب العراقي. ولكن، ما من شك في انهم لا يستطيعون ان يندفعوا مثل النظام الحالي الى قتله؟ فلهم رأي عام ومعارضة يحاسبانهم وهناك رأي عام عالمي يجبرهم على التزام بعض الحدود الانسانية على الاقل في الظاهر، من ترى يحاسب النظام العراقي وهو يسحق شعبه؟ أهو ضمير من يديره؟ أهو الصمت العربي؟ ام الاصوات المحرومة من المنصات في الغرب؟ ومع هذا فان هناك في الغرب بشكل عام وفي اميركا ايضاً وحتى داخل الاجهزة الحكومية نسبة من الناس ممن يتعاطفون مع آلام العراقيين لا يمكن مقارنتها بنسبة من يتعاطف مع هذه الآلام في اجهزة النظام القمعية. أهناك من يستطيع ان يثبت وجود أناس في هذه الاجهزة القمعية ممن لديهم رأفة انسانية تجاه معاناة العراقيين؟ ولا احد يستطيع التأكيد بأن الاميركيين يريدون ويحاولون الاطاحة بالنظام الحالي، فلو ارادوا ذلك وتمكنوا من الوصول اليه، على العكس مما يصرّحون به، فلا يبدو ان هناك الكثير من العراقيين ممن يعارضه. وقد يُقبل ببديل للنظام، اياً كان البديل، لأنه لن يستطيع ان يكون اقسى منه. ومهما يكن فان ضرب النظام واضعافه يصبّ في مصلحة شعبه على رغم انه ربما سيكون هذه المرة ايضاً من المتضررين. وكلما تم ضرب النظام في السنوات الماضية، لم يكن ذلك من الامور التي كانت تحزن العراقيين. وان لم يكن الهدف من الضرب اضعافه كما حصل في شهر آب اغسطس 1996 اثر هجوم القوات الحكومية على اربيل لمساعدة قوات الحزب الديموقراطي الكردستاني ضد قوات الاتحاد الوطني الكردستاني. فلنتذكر الضربات التي تلقاها من داخل العائلة الحاكمة، كانت اعياداً نفسية للعراقيين لأنهم عاشوه كنوع من الانتقام الالهي. الخيار اليوم هو بين انقاذ العراقيين من كابوس طال أمده ولم يكن فيه الا ضير العرب وخسارتهم وبين وحدة العراق المهددة وهمياً في اغلب الاحتمالات. وحتى لو صار هذا الوهم واقعاً، او لا تريده اغلبية العراقيين بمختلف قومياتهم واديانهم وهم ينظرون الى ما ينتظرهم في عراق المستقبل، ان كان مع صدام او من دونه؟