ها قد حل الصمت من جديد بعد ان أنهى مساعد وزير الخارجية الاميركية مارتن انديك جولته، وبعد ان خضع صدام حسين لمنطق القوة الذي ظهر على وجه امبريالية اميركية "يتحداها" بواسطة جيش من الاعلاميين الايديولوجيين العرب يشحذون اقلامهم ضد ما يسمونه "عمالة المعارضين العراقيين لأميركا". في الجلبة وفي الصمت تنام الافكار السياسية وتستيقظ على احلامها واوهامها المستمدة من خيال وحكايات أقرب الى ابي زيد الهلالي والمقداد وعنترة منها الى واقع تملأه ضوضاء المدفعية وصواريخ كروز وتوماهوك وناقلات الطائرات العملاقة والغواصات والاقمار الاصطناعية التي ترعى مصالح وتوازنات وبرامج وخططاً على الارض لا على الخرائط وحدها. فمقابل هذه المادة الصلبة من الوقود والنار والفولاذ والرصاص والزئبق والنحاس، تستعرض الاسطورة الايديولوجية نفسها كما تستعرض النعامات ريشهن في برية دافئة قبل دفن الرؤوس في الرمال الناعمة. يحدث هذا في الواقع العربي لا في المعارضة العراقية وحدها. ونلوذ بالصمت والاحباط منتظرين ان تأتي الولاياتالمتحدة وتطرق هواتفنا داعية الى اجتماع، فتضج المعارضة ويضج معها اغلب الاعلام العربي لنسمع تهمة العمالة لاميركا التي لم يستطع مسحها رجال يتوقون الى حب الظهور، فيسمعون التهمة ويردون عليها خائبين لأن رسالتهم هي الظهور كقادة لا تحصين المصلحة الوطنية. والنتيجة الوحيدة لذلك ان صدام حسين على رغم ديكتاتوريته وجرائمه ضد الشعب العراقي يبدو افضل من معارضة من هذا النوع. هنا تتغلب الايديولوجيا على الدم والموت والتعذيب وخراب البلاد في فاجعة لا تليق بها سوى مناحات اور ومراثي بابل. مرة اخرى نخوض جولة صراع بين الولاء للديكتاتورية باسم معاداة الامبريالية وبين العداء للديكتاتورية باسم دعم الحكومات الديموقراطية. الثنائية نفسها تهيمن منذ نصف قرن او اكثر. ترسم حدودها الصارمة في المخيلة اكثر مما في الواقع. وفي خضم هذه الثنائية تسري تحت الرماد الذي تحاول المعارضة ان تذره في العيون جمرةُ الخلافات والحسد والضغينة السياسية، كما ذر النظام العراقي رماد الحزب المتماسك والعائلة المتماسكة من قبل، فاذا الحزب يتجلى عن تصفيات دموية لنصف قيادته في عام 1979، واذا العائلة تتجلى عن تصفية دموية وقطع رؤوس لنصف ابنائها في عام 1996. والجيش العقائدي الذي بني بطريقة باطنية سرية تديرها التقارير والاستخبارات والتثقيف الحزبي الصارم يتجلى بين فترة واخرى عن تصفيات ورصاص في ميادين الرمي او السجون او مراكز تدريب المشاة، والشعب الملتف حول قيادته يتجلى عن اكبر سجن بعد سجن ابي غريب هو سجن الرضوانية الذي يلعلع فيه رصاص الاعدام الجماعي للرافضين الالتفاف حول القيادة. هذا هو واقع الحال المرئي بآلامه وندوبه التي خلفها في قلوب المواطنين وارواحهم. كأن هناك منشاراً يشكله الحصار وسياسة النظام، ينشر وهو صاعد وينشر وهو نازل، فيئن العراقيون وتنزف قطرات دمهم، وليس من امل في ان يكون الصراخ الاعلامي لبعض الصحف والقنوات التي تزداد مبيعاتها اثر كل ازمة عراقية مع الولاياتالمتحدة ولا الانفاق الاميركي على جهات واشخاص في المعارضة مفيدين ويحملان الخلاص لشعب يتحمل مصيره بالصبر والسلوان. فحتى المساعدات المقدمة لأطفال العراق يسيطر عليها عدي النجل الاكبر لصدام حسين ويخزنها في مخازن اللجنة الاولمبية ثم يعرض قسماً ضئيلاً منها امام شاشة التلفزيون على انها توزع على الاطفال، ليبيع الجزء الاكبر في السوق لاحقاً حتى من دون نزع علامة التبرع لاطفال العراق. ذلك ما يرويه شهود عيان. هناك كثير من العقبات امام خلاص الشعب العراقي تتمثل في: اولاً: المشروع الاميركي مرسوم بطريقة توحي بالتدخل المباشر بالقرار العراقي وان مهمة تحرير العراق تبدو مهمة اميركية اكثر من كونها عراقية. ثانياً: ان ضعف المعارضة العراقية لا يساعد على ان يكون لها دور فعال في مسألة التحرير هذه، فضلا عن ان نشاطها عبارة عن ردود افعال خطابية وتصريحات للتسويق والاستهلاك وملء الفراغ للحصول على نتيجة تكرس تهمة تبعية المعارضة للولايات المتحدة. والعزيمة لرد التهمة خالية من المنطق والشجاعة، مما يقلب الرأي العام ضد المعارضة العراقية. ان ردود افعال المعارضة تحركها ردود افعال الولاياتالمتحدة على افعال النظام. وهي ضائعة بين الطرفين، ولا يزال النظام حتى في هذا الوقت الذي يسوده الصمت ينتظر الفرصة السانحة لاعلان فعل ما. فضلاً عن ذلك تبدو السياسة الاميركية تجاه العراق وكأنها اختصرت المشكلة في ازالة اسلحة الدمار الشامل، وهي قضية لا تشغل بال العراقيين في الداخل كثيراً ولا تختصر فاجعتهم بالنظام والحصار معاً. لذلك لن تصلح هذه المشكلة قاعدة ناجحة لانطلاق السياسة الاميركية تجاه العراق. ثالثاً: ان سيادة روح الايديولوجيا والثقافة الحزبية الواحدية والالغائية التي لا تعترف بالتعددية، تساعد على اتساع الايديولوجيا الانشقاقية التي تضعف الآخر عن طريق تقليص جبهته، وهو ما يحدث اليوم حيث تتجمع نذر غيوم ضد اعادة المؤتمر الوطني الى الواجهة تعمل سراً من دون ان تتحول الى جبهة عمل واضحة وعلنية للتعبئة وتنظيم العمل من اجل قرار عراقي مستقل وموضوعي يستفيد من التغير في السياسة الاميركية ويوظفه في سياق مصالحه. ان هذه السياسة على استعداد لابقاء صدام حسين قرنا آخر على ان يأتي بدلاً منه شخص او حزب آخر. رابعاً: ان غياب قيادة حقيقية وميدانية وقواعد ضاربة وواسعة يحول دون الالتفاف حول ميدان عمل يفرض على الاطراف التعامل معه بحكم الواقع. فالوضع الراهن هو التفرق والتمزق والتشرذم. والتعامل مع وضع مثل هذا لا يسمح بقيام قيادة جماعية ولا قيادة قادرة على فرض نفسها بقوة الواقع. خامساً: ان تطور النظام الحزبي في العراق ونظام صدام حسين في بداية صعوده، حلَّ العشيرة كوحدة اجتماعية للانتماء والولاء. اما عودة نظام صدام خلال الحرب العراقية - الايرانية الى العشيرة فتمت على اساس الولاء للسلطة. والعودة الى العشيرة لم تنتج قيادة عشائرية قومية وقادرة على اعادة تنظيم صفوف العشيرة بدلاً من التنظيم الحزبي، فظل التنظيم الحزبي والتنظيم العشائري ضعيفين معاً. سادساً: ان النظام العراقي الحالي استخدم الدين في شعاراته اثناء حروبه، مما سبب ردة فعل قوية في صفوف المتدينين فانحاز بعضهم الى القوى الدينية المنظمة، واغلبها قوى دينية شيعية، او بقي مستقلاً في غياب قوى دينية سنية غير تنظيم الاخوان المسلمين الذي لم يمارس عنفاً ضد السلطة منذ منتصف الستينات، واكتفى بمواصلة احتجاجه عبر ازدياد حشود المصلين في الجوامع، الامر الذي دعا السلطة الى تعميق روح العداء الطائفي والاستفادة منه. هذا الواقع جعل الاحزاب السياسية غير الدينية ضعيفة والثقة بها شبه معدومة. سابعاً: رغم سيطرة النظام على بغداد الا ان سيطرته على بقية مناطق العراق ومحافظاته الجنوبية، خصوصاً البصرة والعمارة والناصرية والسماوة، ضعيفة، وتكاد تنعدم في الليل. الا ان وضعاً ميدانياً لم ينشأ ولم تنشأ قواعد تنمو وتتوسع ويتم الاعتماد على بؤر ضاربة ليلا ضربات غير موجعة لكنها تساهم في زعزعة استقرار وترابط النظام وطعن هيبته في هذه المحافظات. ثامناً: لم تستطع المعارضة العراقية لا من اطرافها الدينية ولا من اطرافها غير الدينية ردم الفجوة الهائلة بين الطرفين. وظلت مخاوف الطرفين تتطور الى فراق من الصعب ان يلحمه شعار اسقاط النظام الذي يرفعه الجميع. تاسعاً: بسبب الضعف العام للمعارضة اتجهت الى الكلام الكثير عن مستقبل العراق من دون عمل حقيقي يضع هذا المستقبل موضع التنفيذ. ان الخلافات تقوم على كيفية ادارة المستقبل. وهي تضخمت الى حد أصبحت فيه عائقاً امام اجتماع سياسي حول مهمة اسقاط النظام. فمنذ الآن يريد كل طرف العراق له وحده يبنيه بالطريقة التي يتصورها ويحكمه بالعقلية التي يتمتع بها. وكثرة الكلام والتنظير تؤدي الى كثرة الانشقاقات والى تحويل العمل السياسي عملاً شبه ثقافي. عاشراً: تبدو المشكلة العراقية خلافاً بين صدام حسين والولاياتالمتحدة عبر الخلاف مع الاممالمتحدة، وبالتالي فإن مشكلة الشعب العراقي لم تعد محل اهتمام الاممالمتحدة او الولاياتالمتحدة بالمناسبة فان قرار 688 الخاص بحقوق الانسان في العراق لم يتم تحريكه ابداً. وهذا يعني ان المشكلة تبقى وتحل في اطارها الديبلوماسي بعيداً عن موقع المعارضة، بينما يستطيع النظام العراقي ترحيل ازماته الداخلية عبرها بتوسيع الخلاف مع الولاياتالمتحدة لكسب التأييد والتعاطف حتى داخل مجلس الامن فضلاً عن كسب تأييد عربي واوروبي وصيني وروسي. وهنا تبدو المعارضة خارج الازمة كما تبقى خارج حلها، فالديبلوماسية تقوم بعملها بدلاً عنها. حادي عشر: ان المعارضة العراقية على الرغم من ان اغلب اطرافها من احزاب وحركات وتجمعات واتحادات لا يتجاوز عدد اصابع اليد تتصارع ولا تتكامل في نشاطها، وغالباً ما تكون المؤتمرات فرصة لتأكيد صحة المنطلقات النظرية الخاصة بهذا الحزب او ذاك الاتحاد او تلك الحركة، بغض النظر عن صحتها في الواقع. وقد رتعنا وسمنا في صحة المنطلقات الحزبية كذلك السجين الذي خاطبه الحجاج: أراك رتعت وسمنت؟ فقال له: من يكن في سجن الامير يرتع ويسمن. واذا كنا منصفين وواقعيين وموضوعيين يجب ان نقول الحقيقة المرة وهي ان المعارضة العراقية ليست ديموقراطية ولم تتعود اساليب الديموقراطية، وثقافتها السياسية محدودة وقديمة تنتمي الى ثقافة الحرب الباردة في الخمسينات والستينات، وحزبيتها ضيقة لا تعترف بالتعددية، ونظرتها الى الواقع السياسي احادية تغلّب المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية. هذا هو الواقع الذي يثير دائماً غضب المعارضة من دون ان تفكر بأن عليها تجاوزه. فمقابل الحديث عن هذا الواقع المر تعمد احزاب المعارضة الى الاسلوب السهل، اسلوب الصراع الايديولوجي الواحدي: التخوين والاستعداء والتضامن ضد كشف الاخطاء. ثاني عشر: لم تستطع المعارضة العراقية بمجموعها اقامة علاقات اقليمية وعربية فضلاً عن علاقات دولية. لقد عوض عن تلك العلاقات علاقات حزبية لكل طرف مع دولة عربية او اقليمية او عالمية حسب الاتجاهات القومية او الايديولوجية او المذهبية. وحتى واقع التعددية والاعتراف بها قومياً ومذهبياً وثقافياً وسياسياً لا يدخل في اطار وطني شامل من قبل الجميع. فالاكراد يتبنون حقوقهم ويتحدثون عن ضرورة الاعتراف بالفيديرالية وحقوق الاكراد. وبعض قوى الشيعة يتبنى حقوق الشيعة ويتحدث عنها، والتركمان والآشوريون يفعلون ذلك ايضاً، وكل حزب يتبنى حقوقه ويتحدث عنها، فتصبح التعددية مشكلة لا حلاً مقابل الديكتاتورية التي لا تعترف لأحد بحق. وتتحول التعددية في الواقع الى مشكلة انشقاقية في مناخ تبالغ فيه الاطراف السياسية والقومية والمذهبية والثقافية في حقوقها، حتى اصبح طرحها فوق حقوق الآخرين وفوق حقوق الجميع، وهذا عمق الانشقاقات والمخاوف والصراعات. ثالث عشر: في الوقت الذي تحارب فيه المعارضة العراقية ضد صعود اجيال ديموقراطية وواعية لمتطلبات العمل السياسي الجديد وفق عقليات جديدة، يهيمن على المعارضة كرادلة يشبهون كرادلة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي في السبعينات، ويصعد الى "ستاف" هؤلاء اشخاص من دهاليز الماضي لتتكرس حال انقطاع بين الشعب العراقي وبين مطامحه. كما تتكرس حال تبدو وكأنها نوع من الانتقام من العراقيين الذي ثاروا في تموز يوليو 1958. وهذه الظاهرة ساعدت على تسود فكرة لدى العراقيين تقول بأن المعارضة ليست احسن من النظام، وفي سياق الصراع على السلطة في المعارضة تسحق شعارات الديموقراطية والتعددية وحقوق الانسان، كما تهمل تماماً المتطلبات الفعلية والواقعية الاجتماعية للشعب العراقي في المستقبل القريب والمتمثلة في الحرية واعادة بناء المجتمع والاسرة والمواطن واعادة لحمة النسيج الاجتماعي الممزق بفعل الحروب واجراءات النظام القمعية، واعادة بناء الجيش والدولة بما يخدم الاستقرار والسلم الداخلي والخارجي واعادة اعمار البلاد واعادة بناها التحتية المهدمة، وتوفير العمل والضمان لملايين العاطلين الباحثين عن لقمة الخبز في غد لا يزال يلوح لهم اسود قاتماً ومجهولاً وتلافي المشاكل المستديمة التي رافقت نظام حزب البعث منذ بدايته والمتمثلة ب: - نقص الاغذية والحاجيات الاستهلاكية والوقوف طوابير طويلة يوما في الاسبوع او الاسبوعين. - ازمة السكن الطاحنة التي انفجرت في مطلع السبعينات ودمرت اجيالاً بتفاقمها واستفحالها دون علاج. - ازمة النقل التي حولت الناس الى كتل بشرية منتظرة او راكضة خلف باص او سيارة اجرة. - منع السفر لسنوات طويلة بحجج مختلفة والسماح به لعدة اسابيع ثم منعه ثانية وفرض شروط قاسية وعقوبات شديدة في حالات معينة. علماً ان هذا الواقع بدأ في السبعينات وفي زمن الجبهة الوطنية التي شاركت فيها احزاب معارضة اليوم، اي في زمن الاستقرار السياسي في البلاد. وما يحتاجه العراقيون ليس قلب نظام الحكم فحسب، وانما قلب نظام العوز والفاقة وامتهان الانسانية فيهم. وقد اضيف لذلك خلال الحروب والهزائم وتدهور الوضع السياسي والاقتصادي والامني ازدياد ظواهر الفساد والرشوة واستغلال السلطة وغياب القانون، ونظام الامتيازات الذي انتقل من الحزب الى العسكريين والى رؤساء العشائر والى المرتبطين بأفراد العائلة الحاكمة، وهو أمر استخدم حتى في زمن الجبهة الوطنية حيث تمتعت قيادات الاحزاب المتحالفة بامتيازات انستها اجراءات النظام في قمع القاعدة واعتقال افرادها. هذا الواقع المعقد والمتشابك لم تستطع المعارضة العراقية التقليدية التقاط اسلوب مواجهته، خصوصاً ان اغلب نشاطها ينصب على نقاشات وجلسات لتمضية الوقت والشكوى من الواقع المرير، ولذلك فإنها تنتظر بفارغ الصبر من يمد اليها يد المساعدة والانتشال من وزارة الخارجية البريطانية التي تنتظر ان ترتقي المعارضة بعملها ونشاطها دون جدوى، ومن السفارة الاميركية في لندن التي تحرك فيهم جو الحماس والحركة الى حين، فاذا سافر الداعي خمدت الحركة وانطوت المبادرات. هناك قرابة اربعة ملايين عراقي في الخارج لم تمتد لهم يد معارضة لتجميعهم او اشراكهم في الهم والعمل المنتظر ولاشعارهم بالتضامن الوطني معهم في مهجر يمتد على خمس قارات، وربما يطول الوقت لدرجة ان ينسى العراقيون مستقبلاً حلم العودة الى العراق، الى: ارض الميعاد. * كاتب عراقي