الشاعر الفحل تنغرس فكرة "الفحل" و"الشاعر الفحل" في ثقافتنا انغراساً عميقاً عبر الصفات والمصطلحات والمسميات، فالفحل غالب ومتفوق ومتسام وهو فوق الجميع. وكل حالة فحولة هي حالة غلبة وعلو، فعلقمة الفحل صار فحلاً لأنه ألجم امرأ القيس في مبارزة شعرية ترويها كتب الأدب، وكذا شعر الفحول والفحولة. وشيطان العجلي الذكر، بينما شياطين غيره إناث. هذه صورة أولى هي بمثابة البذرة التي تنامت في ثقافتنا وصارت تتعزز لدى الشعراء وعلى مر الأزمنة ويساهم في صنعها جيل من الشعراء بعد جيل. ولو نظرنا في الوسط لوجدنا المتنبي، شاعرنا العظيم، يصطنع نموذجه الخاص من الفحولة حيث تبرز "الأنا" بصورة طاغية متفردة لا وجود لمن هو سواها: - أنا الصائح المحكي والآخر الصدى الديوان 2/15 - أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي 4/83 - وما الدهر إلا من رواة قصائدي - إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا 2/14 - بأي لفظ تقول الشعر زعنفة 4/90 هذه صورة متطورة للفحل تتناسل مع الزمن حتى تبلغ أوجها لدى شعراء العصر الحديث. ويبدأ الشاعر يزعم أنه صاحب رسالة عالمية لإنقاذ الكون، وأنه لولا شعره لانهارت الدنيا على رؤوس الناس. ويصل الأمر إلى حد زعم ألوهية الشاعر، فالعقاد يقول: والشاعر الفذ بين الناس رحمان وهذه هي الخلفية الثقافية التي تقف وراء بزوغ الفحل الجديد نزار قباني الذي نجده منذ كلماته الأولى يترسم صورة "الشاعر الإله" حيث نقرأ قوله: "ماذا نقول للشاعر، هذا الرجل الذي يحمل بين رئتيه قلب الله، ويضطرب على أصابعه الجحيم، وكيف يعتذر لهذا الإنسان الإله الذي تداعب أشواقه النجوم"؟ هذا كلام يقوله العام 1947 في مقدمة ديوانه "طفولة نهد" وينقل معه كلمة عن كروتشه يصدر فيها القانون الفحولي التالي: "على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفن موقف المتعبد لا موقف القاضي" ص د طفولة نهد. هذه صورة ولدت عند نزار لتبقى وتتصاعد لنراه يحكم على عبيده وعبداته بجناته ونيرانه: إني خيرتك فاختاري ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار هذه ليست مجرد مبالغات شعرية، ولعل عيب ثقافتنا هو في اصرارها على التعامل مع الأوهام بوصفها مبالغات شعرية وعلى أن اعذب الشعر أكذبه. في حين إن هذه المبالغات المزعومة هي ما يؤسس للتصورات الذهنية والثقافية عن سلطوية الذات وسموها وجبروتها. وغفران هذه الذنوب - حسب كلمات نزار - هو ما يسمح لها بالتسرب إلى وجداننا الثقافي ومن ثم تبرير وتعزيز السلطة الفردية وطغيان الأنا المتوحدة مع إلغاء الآخر والتعددية في حين يعلو الصوت المفرد. ولا شك في أن نزار قباني ليس إلا طرفاً من سلسلة طويلة، وهو بمثابة "الخلاصة" الثقافية للنسق الثقافي الفحولي. ولقد تجلت فحولية نزار عبر خطابه الذاتي الذي يخاطب فيه نفسه اكثر من مخاطبته للآخر. ومن اجل استقراء سيرة هذا الخطاب نقف عند اقتباسات جوهرية من كلمات قباني ومقولاته. على أننا نحتفظ دائماً بفكرة أساسية وهي أن هذه الفحولية ليست من إنتاج نزار قباني بقدر ما هي موروث ثقافي استلهمه نزار وانساق وراءه وخضع له من دون وعي منه بهذا الانصياع الذهني والثقافي - كما سنوضح باستمرار عبر تطورات الحديث في هذه الورقة - كما أننا لن نغفل عن فكرة جوهرية أخرى وهي أننا نحن - كقراء - مسؤولون عن ترسيخ هذه الصورة عبر قبولنا لها واندفاعنا وراء استهلاكها والتصفيق لها. إن الوقوف على سيرة الخطاب النزاري عبر التقاط اقتباسات دالة من مقولاته يكشف لنا عن سياسة الثقافة التي يؤسس لها هذا النوع من الأدب الجماهيري. وهذا الشاعر الأب فحل الفحول يقول عن نفسه: "أنا مؤسس جمهورية شعرية، أكثر مواطنيها من النساء". وهذه دعوى غير صحيحة طبعاً. وليس يهمنا مدى صحتها ولكن المهم هو حدوث الدعوى بذاتها وانتشاء "الأنا" بجمهوريتها المزعومة وبمواطنيها النساء مذ كانت الفحولة الشعرية هي المبدأ المحرك لشهوة الإبداع عند الشاعر. وبما أن الجمهورية جمهورية الفحل، فلا بد أن يكون الرعايا نساء ومن حق السيد الشاعر أن يعلن عن غايته من جمهوريته هذه فيقول: "إنني أكتب حتى أتزوج العالم... أنا مصمم على أن أتزوج العالم". ويبدأ مشروع الفحل في تحويل العالم إلى جمهورية نسائية تخضع للاستفحال. يبدأ المشروع عبر انتهاك عذرية اللغة وفضها من قبل الشاعر الفحل وذلك لأن الكلمات في اعتقاد الشاعر عذارى وتظل كذلك إلى أن يضاجعها كي تتعهر، وعبر معاشرة الشاعر الفحل لها تتحول اللغة إلى أميرة أو إلى خادمة. هنا يظهر الشاعر بوصفه أمير الكلام، وبما انه يجوز له ما لا يجوز لغيره وهو "الطفل الوحيد الذي يسمح له في المجتمع العربي أن يلعب باللغة". وهذه هي أخطاؤه التي يصفها بالأخطاء الجميلة، ويؤكد ذلك قائلا: "إنها جميلة لأنني حين أستعرضها بعد أربعين سنة من ارتكابها أجدها رائعة حقا". هذا يعني أنها أفعال ليست عفوية أو انفعالية، إنها عمل مخطط ومبتغى مرتضى ومقصود، وهي مشروع طويل الأمد احتاج إلى أربعين سنة من النية والتخطيط والفرح بالنتائج. إنها مشروع لانتهاك اللغة والعالم وتحويل اللغة إلى خادمة تنصاع لمراد السيد الشاعر مع إذلال العالم وإخضاعه لنزوات الفحل، وبعث عادة "الاستفحال" وهي أن يطلق الفحل الجسيم على النساء ليحبلن منه وهي عادة في بعض بلدان الشرق - انظر القاموس المحيط مادة فحل. إن الشاعر هنا يقدم بإصرار وتعمد على استنبات مفهوم "الفحل" بخصائصه الفحولية المتعالية. ولن تكتمل هذه الفحولة إلا بإلغاء الآخر وإعلان وحدانية الذات، وهذا هو الوجه الآخر لصورة الفحل. يقول نزار قباني في ذلك: "إنني لا أقيس نفسي بأحد، إنني أقيس نفسي بنفسي". هذا هو علقمة الفحل الذي لا يرى أحدا غيره، ولذا كثر تبرم نزار بناقديه وظهر امتعاضه منهم، وأفصح عن احتقاره لمنافسيه وازدرائه لهم وأعلن عن اعتقاده بأن ذلك بسبب حسدهم وغيرتهم منه ومن شعبيته، ولذا فكر بإيجاد "قوة ردع أدبية" تلقي القبض على خصومه بتهمة الزنى بالكلمات والقذف العلني لزميلهم الشاعر الفحل. وإذا كان الشاعر يحمل في داخله هذه المشاعر، فإننا نسأل عن جمهوريته التي ادعى تأسيسها وأي جمهورية هي؟ أهي جمهورية من رجل واحد والباقي جوار تستجيب لنزواته وشهواته بما في ذلك اللغة التي تنتظر معاشرته ومضاجعته لها، والعالم الذي ينتظر منه أن يدنيه إلى فراش الزوجية، وبعد ذلك يتولى الشاعر طرد الآخرين من جمهوريته الخاصة به وحده دون سواه؟ هذه الجمهورية المحروسة بقوة الردع الأدبية التي تحمي حمى السيد الشاعر وتمنحه وحده حق القول والفعل أما من عداه فهم رعايا وخدم وجوار، وويل للمارقين الكفرة. هذا هو برنامج السيد الشاعر رئيس الجمهورية بوصفه الأب الرمزي الذي لا يصير فحلا إلا عبر تأنيث ما عداه، بمعنى أن هذه الفحولة - كما هو شأنها دائما - ترى التأنيث نقصاً ودونية وكائناً مسكينا يحتاج الى الشاعر الاب لكي يرعاها ويتكلم نيابة عنها كما سنرى في الفقرة التالية: والفحل دائماً فرد متفرد في فحوليته، وشيطانه ذكر لأنه نجم عجلي أو هو عجل نجومي هو وحده لأن من سواه شيطانه أنثى وله الشيطان الذكر وحده". * أكاديمي سعودي.