لا يكتفي الباحث الدكتور سمير سحيمي في كتابه «الايقاع في شعر نزار قباني» الصادر مؤخراً عن دار «عالم الكتب الحديث» بالموضوع الذي خصصه لكتابه، وهو الايقاع في شعر نزار قباني، وإنما يعقد فصولاً تتناول رأي النقاد والباحثين في نزار، بمن فيهم رأي المجاملين (بكسر الميم الثانية)، أي الذين جاملوا الشاعر وناصروه لأسباب شخصية في الغالب، فهو يتتبع آراء هؤلاء ابتداء برأي الشيخ علي طنطاوي الوارد في عدد مجلة «الرسالة» القاهرية 661، الصادر في مارس 1946 الذي كان فاتحة الاهتمام بنزار كشاعر، والذي يؤشر لكيفية استقبال المجتمع العربي المحافظ أو المتزمت يومها لشعر نزار الذي أتُهم يومها بالخروج على «النظام العام» للمجتمع العربي الإسلامي. يصف علي طنطاوي الديوان الأول لنزار «قالت لي السمراء بأنه كتاب صغير زاهي الغلاف، ناعمة، ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علب الشيكولاتة في الأعراس» وهو يشتمل على وصف ما يكون به الفاسق القارح، والبغي المتمرسة والوقحة وصفاً واقعياً لا خيال فيه لأن صاحبه ليس بالأدب الواسع الخيال، بل هو مدلل غني عزيز على أبويه. وفي الكتاب، مع ذلك، تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول». وفي كتاب آخر عن نزار، صادر في تونس، عنوانه «نزار الذي نراه» يصف المنصف المزغني زنار قباني بالشاعر الشعبي الفصيح، وهو في ذلك يشير إلى جماهيرية الشاعر وبساطة لغته وثراء تجربته، وثرى جميلة الماجري في نزار، في الكتاب نفسه، فاحت صورة جيل من النساء، في حين يفسر المنصف الوهايبي ذيوع صيت شعر الشاعر ببعد الشفوية في شعره. ويتجلى حضور نزار في الساحة الثقافية في احتفاء المدن به وبشعره، في حياته وبحضوره فمدينة القيروانالتونسية أول مدينة عربية تكحل عينيها بقصائده: «تكتبها بماء الذهب على قميصها، أول مدينة منذ العصر الجاهلي تعتبر قصائده من المقدسات وتعلقها على جدران الكعبة، أول مدينة ليبرالية تتزوج الشعر بلا مهر. القيروان تكتب أسماءنا على خزفها «بقلم نزاري قباني) وقد ورد في: «نزار قباني في عيون النقاد».. ويستمر الكتاب في عرض مختلف الآراء في الشاعر وشعره. يقول الباحث ان المتأمل في تاريخية الدرس النقدي يلحظ تزامناً بين بداية التجربة الشعرية لنزار قباني ومتابعتها النقدية. وقد تنازمتها رؤيتان: الأولى محافظة، والثانية محايدة تسعى إلى تقديم الشعر والشاعر. لكنها بقيت مقالات متناثرة تتعدد مشابها، ولم ترتق إلى القراءة النقدية إلا في الستينات. وذلك بديهي لأن التجربة في مرحلة البدايات محدودة التراكم. وقد كان كتاب إيليا حاوي «نزار قباني شاعر المرأة» أول أثر نقدي أفرد للشاعر. في هذا الكتاب يقول إيليا حاوي ان الوصفية في شعر نزار تغلب الذهنية، «وهي وصفية تدل دلالة حاسمة على قصور الشاعر وتخلفه وتضعف موضاته» والذهنية عند نزار، يعتبرها حاوي كثيرة التعمد لا تفوق التقرير عمقاً. أما شهرة نزار فهي «كالمال فيها الزائف الحرام، وفيها الحلال الصريح» ومفهوم الحلال والحرام والنزعة المحافظة في التعامل مع الشاعر اضافة إلى اصدار الأحكام دون روية واستدلال تظهر في مقال علي طنطاوي الذي غلب عليه التهكم والسخرية، وفي كتاب «الوجه الآخر» لجهاد فاضل الذي اعتبر شعر نزار في الغزل قصيدة واحدة استمر الشاعر يكررها وينوّع عليها على مدى نصف قرن. ويتحدث الباحث في كتابه عن جانب آخر، هو جانب الذين جاملوا الشاعر. وقد ظهرت أغلب دراسات هؤلاء، بعد وفاة الشاعر سنة 1998ومنها مقال عنوانه «نزار قباني: نصوص ورسائل حميمية» لياسين رفاعية، ومقال آخر لمحبي الدين صبحي عنوانه «صداقتي مع نزار قباني» كشف فيه سياقات بعض قصائد نزار ومناسباتها وكيفية كتابتها. وهناك كتاب «آخر كلمات نزار» لعرفان نظام الدين وفيه يرسم صورة بانورامية للشاعر، وقد صدّره «بالتشرف بالكتابة عن الأخ الأكبر نزار قباني»! وهناك دراسة توسلت التحليل النفسي في قراءة شعر نزار قباني كتبها خريستو نجم: «النرجسية في شعر نزار قباني». وقد أكد فيها انها دراسة أدبية، وليست الناحية السيكولوجية إلا وسيلة لتوضيح ما لا تستطيع المدارس الأدبية التقليدية توضيحه. وقد درس نجم في كتابه شخصية نزار وغزله وسياساته، وانتهى إلى أن نزار أديب ذاتي يدور كالنجم في فلك أناه، نرجسي إلى حد بعيد. وقد سعى سواه من الدارسين إلى تطبيق نفس المنهج، وعنهم محمد حسناوي في مقاله «أخلاقية نزار» إذ كشف وجهين لأخلاقية الشاعر الأول جنسي والثاني إنساني، ورأى أن الشاعر وفق فيهما. ومنهم أيضاً المستشرق الأمريكي اريك لويا في مقاله «الجنس والمجتمع في شعر نزر قباني»، وقد أشار إلى تطور نظرة نزار للمرأة طيلة 25 سنة من الكبت إلى التسامي، ومن الجموع الجنسي إلى الشعر الاجتماعي. ومن الكتب التي اعتمدت التحليل النفسي سبيلاً من سبل سبر أغوار النص كتاب «نزار قباني شاعر المرأة والسياسة» لنبيل خالد أبوعلي، وقد أكد على حادث انتحار شقيقة نزار قباني كعامل أساسي سبب التوجه إلى شعر المرأة. وقد كشف أن شعر السياسة أيضاً معركة انتقام من المجتمع «فنزار مازال أسير عقدته النفسية الناتجة عن مقتل شقيقته. لكنه أحس بهذا التعميم في سياقات أخرى من الكتاب فاعترف بأن نزار ضمير الأمة الحي وصتها الواضح وصرختها المتواصلة». ويضيف الباحث أن نزار قباني عُد شاعر المرأة بامتياز، وقد حايثت عبارات أخرى هذه العبارة لتدل على هذا الموضوع الشعري، فاعتبر شاعر غزل وشاعر حب وشاعر حس. وقد سعى الدرس النقدي من خلال هذه الاستعمالات إلى البحث في خصائص هذا الشعر وسماته المميزة، فدخول شاعر معاصر تجربة الشعراء، العشاق تجربة نادرة وفريدة. ومما قد يؤكد بعض مظاهر التماثل بين شعر نزار وقصيدة الغزل الموازنة بين شعره وشعر عمر بن أبي ربيعة. ولكن إذا كان الدرس النقدي لا ينفي اعتبار شعر نزار غزلاً في زاوية من الزوايا، فإن الغالب عليه أنه شعر المرأة أساساً، لأن التجربة تجاوزت خصائص الغزل إذ لم يستطع أحد من الشعراء الاسترسال عبر السنين في الحديث على لسان المرأة نفسها، وعن حبها وهمومها كما استطاع نزار. وترى رفيقة البحوري في مقالها «المرأة لعبة الحرف في شعر نزار قباني» ان الشعراء الآخرين لم يحققوا ميزة نزار المتمثلة في تنويع القول في موضوع المرأة وتعداد طرائق التعبير عنه. فشعر نزار قباني لا يخلو من البعد الفكري تجلوه نقطة ارتكاز هي موضوع المرأة تطرح من خلاله قضايا الحرية والمساواة والتمدن. وشعره في المرأة ليس مجرد صف لها، بل هو تعبير عن حالاتها ورؤاها ورفضها وخضوعها وجسدها ووجدانها. وقد اتفق كثير من النقاد على اعتبار شعر المرأة عند نزار تجارب: تجربة أولى ترتبط بفتنة الجسد، والإغراء، والإثارة والنزوة الجامحة التي كانت فيها المرأة ذات جسد أكول وشهوة مولولة عارمة. تجربة ثانية صارت فيها المرأة واعية بذاتها، إذ اقترنت صورتها بالجمال الأنثوي باعتباره فناً لا إغراء. أفصح الشاعر بذلك عن حس إنساني عميق، وشعر وجداني يختلف عن التجربة الأولى، تجربة ثالثة اقترنت بالاستقرار العاطفي الذي وافقه استقرار في عالمه الشعري. ويعتبر صلاح فضل أن مسّية شعر نزار تبعث على الاعتراف الواقعي بالجسد الإنساني، ودعوة للحد من محاولات تغبيبه. إنه إذن شاعر امرأة، وشاعر حسّ وشاعر حب، لأن الحب عنده موضوع شعري مستقل وصف فيه أشياء المرأة وحالاتها وحركاتها ومشكلاتها، فانتقل بذلك من أن يكون جمالياً إلى أن يكون سيكولوجياً. وهكذا نتبين مظاهر ثراء تناول الدرسمة النقدي لشعر المرأة عند نزار.