تأتي النشوة البلاغية والهوس الجمالي بوصفهما حجاباً يغطي على العيوب ويغشى العيون عن التبصر. هذه هي لعنة الشعر حينما يكون جمالياً فحسب، وأنيقاً ولا غير. ومن تحت الأناقة تكمن البشاعة الإنسانية التي تأسست أصلاً في الذهن الثقافي المهيمن، وتوافر لها رموز يعيدون إنتاجها مستخدمين أجمل المبتكرات البلاغية والوسائل الأسلوبية. ومشكلة هذا النوع من الذوات والأنساق إنها ذات نسقية غير قابلة للتغير أو التحول. هي إياها لا تتغير. وها هو نزار قباني يكتب في عامنا الماضي 1997 مثلما كتب العام 1944 وكأن خمسين سنة من عمر الثقافة لم تمر ولم تفعل. وإليكم آخر نص قرأته لنزار منشوراً في جريدة "الحياة" في 6/6/1997 يقول فيه: أنت لولا الشعر ... ما كنت بتاريخ النساء!! - 1 - لم أزل من ألف عام. لم أزل أكتب للناس دساتير الغرام. وأغني للجميلات... على ألف مقام ... ومقام... أنا من أسس جمهورية للحب... لا يسكنها إلا الحمام... -2- لم أزل من ألف عام أحمل الأنثى على ظهري وأرسيها على بر السلام. لم أزل اعمل كالنحلة، في جمع الأزاهير... وتطبيع العصافير... وفي تزيين قاعات الشام... أنا من ربيت دود القز... في أشجار نهديك... وحركت أحاسيس الرخام... -3- منذ أن غنيت أولى كلماتي وأنا أرفع شمس العشق، في وجه الظلام. لم أنم طيلة قرن كامل يا ترى، في أي قرن أنام سوف أنام؟؟ -4- قبل أن أكتب عن خصرك شعرا لم يكن عالمنا يعرف ما ريش النعام!!. -5- كنت يا سيدتي، خرساء قبلي وبفضلي... صار نهداك يجيدان الكلام!! -6- فاشكريني... كلما شاهدت أعضاءك في ماء المرايا فبدوني، لن يكون القد قدا... أو تكون الساق ساقا... أو يكون الكحل كحلا... أو يكون الورد وردا... وبدوني... لن يكون الشعر المجنون إعصارا... وسيفا يتحدى... وبدوني... لن تري في كتب التاريخ... عفراء... وليلى... أو تري هندا ... ودعدا... -7- واشكريني مرة ثانية كلما جاء ربيع أو شتاء فبدوني ... لن تكوني قمرا يسكب الفضة والثلج... على نار المساء... وبدوني... لم يكن ثغرك مرسوما كخط الإستواء... -8- يا التي رصعت كشمير يديها بخيوط من قصب... وحواشي ثوبها... برقاقات الذهب... والتي مرت كعصفور ربيعي ببستان الأدب. اشكري الشعر كثيرا. أنت لولا الشعر، يا سيدتي لم يكن اسمك مذكورا بتاريخ النساء!! هذا نص يعيد صياغة التجربة الشعرية لدى قباني مكررا أخطاءه الجميلة ...؟ أو ذنوبه الصغيرة - حسب تعبيراته - وهو جازم بأنه ذلك المتفرد الصانع الواهب فحل الفحول وشهريار العالم. يعيد جمله المركزية فيقول: أنا من ربيت دود القز في أشجار نهديك وحركت أحاسيس الغرام مكررا ما قاله قبل عقود: إن كنت أرضى أن أحبك فاشكري المولى كثيرا من حسن حظك.. أن غدوت حبيبتي زمنا قصيرا فأنا نفخت النار فيك.. وكنت قبلي زمهريرا. ذلك لأن الفحل ما زال منتشيا بفحولته فهو "مولاها" الذي لولاه لا تكون: قبل أن أكتب عن خصرك شعرا لم يكن عالمنا يعرف ما ريش النعام شكراً لك يا مولانا، من نحن ما نحن لولا نباهتك وتنبيهك لنا عما كنا في عمى تام عنه لولاك أيها الرهبوت! مع الاعتذار لأمل دنقل. هذا عنا وعن العالم، أما نساء الكون فلهن منه الهبات الكثار الاعتذار للسياب: كنت يا سيدتي خرساء قبلي وبفضلي... صار نهداك يجيدان الكلام. ألم يقل من قبل: ليس يكفيك أن تكوني جميلة كان لا بد من مرورك يوما بذراعي.. كي تصيري جميلة. أما لماذا وكيف فهذا ما كان جوابه جاهزا: ليس لك زمان حقيقي خارج لهفتي أنا زمانك ليس لك أبعاد واضحة خارج امتداد ذراعي أنا أبعادك كلها. لقد قالها مرارا ومرارا من قبل، غير أن السيد الشاعر يمن علينا دائما بتذكيرنا وتقرير الأوامر والتعليمات علينا، فيعيد ما قاله قبل خمسين سنة في "طفولة نهد" حيث نتذكر قوله: ما أنت من بعدي سوى طلل أنقاضه تبكي على بعض وقوله: اتركيني أبنيك شعرا وصدرا أنت لولاي يا ضعيفة طين * * * مشكلتنا أمام شعر كهذا أننا استسلمنا لقاعدة نقدية بلاغية ذهبية تمنعنا من النظر في عيوب الشعر لأنها تحرم علينا مساءلة الشاعر عن أفكاره وتحدد لنا مجال الرؤية في ما هو جميل وبلاغي، وليس لنا النظر في العيب والخطل الفكري، والرخصة الوحيدة هي في النظر إلى العيوب الشكلية في الأوزان والقوافي أو في عيوب التعبير اللفظي. هذا ما تدربنا عليه ثقافيا مما يمثل مؤامرة جماعية ضد العقل والذوق تقبلناها وخضعنا لها وكأنما هي صنم صنعناه بأيدينا ثم استسلمنا له خاضعين طائعين. أليس هذا عمى ثقافيا؟! عنوان محرف نعود مرة ثانية إلى آخر قصيدة لنزار قباني وعنوانها التقليدي حسب المعتاد الشعري لنزار -: "أنت لولا الشعر ما كنت بتاريخ النساء". وهو عنوان يبدو عليه التحريف لأن المعنى الحقيقي هو "أنت لولاي" بإحالة الضمير إلى الذات والتركيز على الأنا كما هو موجود في شعر نزار وكما هو شرط الشاعر الفحل والأنا الطاغية. وفي عودتنا إلى النص لا بد ان نلحظ ترداد عبارة وبدوني التي طغت على القصيدة مكررة عبارة أنت لولاي التقليدية. هذا التكرار الذي يذكرنا بكلمة رولان بارت حول دور التكرار في التهييج الشبقي. وهو تكرار يقوم على الاستدعاء المستمر للملامح الجسدية للأنثى، هذه الكائنة التي تتقلص إلى مجموعة محددة من العناصر هي: نهداك/ أعضاؤك في المرآة/ القد/ الساق/ الشعر/ الثغر. ولا شيء سوى ذلك من العناصر الجسدية التي تطفح بها لغة قباني ويحدث من تكرارها المستديم حس تهييجي وشبقي صارخ. على أن الحديث عن جسدية الأنثى ولا عقلانية هذا الجسد لدى نزار قباني سيكون أمراً معاداً ومكروراً، والجميع يتفقون عليه - ولا شك - ولكن السؤال هو لماذا يصر نزار من جهة ويندفع القراء من جهة ثانية وراء هذا النسق الصارخ؟ ولماذا نقبل ثقافيا وذوقيا واجتماعيا ودينيا تقليص الأنثى إلى هذه الصورة المحددة، ونغفر للشاعر خطاياه وذنوبه ونشتري دواوينه بالآلاف ونهرع لسماعه والتلذذ بنصه رجالا ونساء؟ ومع جزمي بأن الأمر معروف وبيّن لدى الناس إلا انني اشعر بأن رسم صورة للمرأة كما هي في ذهن نزار امر ضروري لهذه الورقة، كي أبني عليها أسئلتي وتصوراتي حول فكرة "العمى الثقافي". ومن المهم أن نأخذ المسألة من قمتها حيث نأخذ ديوان نزار الذي سماه "أحلى قصائدي" وهي مختارات شعرية انتقاها نزار وأعاد نشرها وسماها بالأحلى، وفيها نجد قصائد مرعبة من حيث ما تحمله من تصورات فحولية للذات عن ذاتيتها وعن علاقتها بالآخر. والآخر عند الذات الفحولية ليس سوى كائن أنثوي مختصر في جسد مشته يدخل في علاقة استفحال مع الشاعر الكوني. وانظر مثلاً هذه الأنثى التي تجثو أمام الفحل متوسلة إليه كي يشعل سيجارته من عينيها 24-ص49، هذا الفحل المتوحش الضارب اللاطم المستبد في قصائد يسميها بالمتوحشة ص100. ذلك لأن الجسد المؤنث عنده ليس سوى دفتر يكتب عليه أشعاره. والمرأة بوصفها ورقة يخط عليها الشاعر فحولته وذنوبه وأخطاءه، فهي مرادف محدد الدلالة، فإذا كانت الكلمات ترادف الصفحات والمئذنة ترادف المؤذن والزجاجة للعطر والبحر للمسافرين، فإن المرأة ترادف الجنس تحديداً وحصراً لدى الشاعر الفحل. وما بين قصيدة "لوليتا" ص54 - أحلى قصائدي وقصيدة "نهداك" ص105 يتقرر عمر المرأة، أي يتحدد الزمن الذي تكون فيه المرأة أنثى مطلوبة من الفحل ومرغوبة. فلوليتا لا تلفت نظر السيد الفحل إلا بعد أن تبلغ سن الخامسة عشرة، أما قبل ذلك فهي خارج البصر ولم تكن مؤهلة لدخول القصر الإمبراطوري، ولكنها اقتطعت تأشيرة الدخول من لحمها ودمها وصارت تستعطف السيد الشاعر بأن يلتفت إليها: صار عمري خمس عشرة كل ما في داخلي غنى وأزهر كل شيء صار أخضر شفتي خوخ .. وياقوت مكسر وبصدري .. ضحكت قبة مرمر وينابيع وشمس وصنوبر صارت المرآة لو تلمس نهدي تتخدر والذي كان سويا قبل عامين تدور فتصور. تصرخ المرأة معلنة أنها صارت أنثى حسب شروط الفحل وبالتالي فإنها تستجدي نظرته إليها. وما من رجل يسمع هذه الكلمات إلا وتشتعل نيران فحولته وشبقيته، فهذا هو موسم القطاف، وهو موسم محدود هذه بدايته وسوف نرى نهايته في قصيدة "نهداك" ص105 حيث تسمع الأنثى أجراس الإنذار تدق في أذنيها حينما يقول لها السيد الفحل محذرا ومنبها: مغرورة النهدين خلي كبرياءك وانعمي بأصابعي، بزوابعي، بتهجمي فغداً شبابك ينطفي مثل الشعاع المضرم وغداً سيذوي النهد والشفتان منك فأقدمي وتفكري بمصير نهدك بعد موت الموسم بداية محددة ونهاية محددة، يحددها النهد النابت للتو أو الذاوي للتو. هذا هو زمن القطاف وزمن الأنوثة لدى السيد الفحل، وما خرج عن هذين الحدين المقررين من الشاعر فهو خارج النظر والرؤية ومطرودة صاحبته من جمهورية الشاعر، تلك الجمهورية التي رعاياها نساء، ولكن أي فئة من النساء؟! في داخل جمهورية السيد الزعيم تصدر بيانات الفحولة ويكفي أن نقرأ قصيدته "الرسم بالكلمات" وهذه بعض أبيات منها: لم يبق نهد أسود أو أبيض إلا زرعت بأرضه راياتي لم تبق زاوية بجسم جميلة إلا ومرت فوقها عرباتي فصلت من جلد النساء عباءة وبنيت أهراماً من الحلمات هي كلمات بمثابة البيان الرسمي عن الفحولة، وهي كلمات يتفوه بها نزار بلسان حال كل فحل وكل رجل لأنها تمثل النسق الثقافي المغروس في أذهان الرجال عن وظيفتهم الوجودية مع الجسد المؤنث. وهذا هو المطرب والمغري فيها... ولا شك. ولكن السؤال هو: هل هذا فعل ومسلك صحيح، وهل نقبله من دون حياء أو خجل، وهل يحسن بنا نقد هذه الصورة وتعريتها، أي نقد ذواتنا كرجال ونقد ثقافتنا ومساءلة تصوراتنا بعيداً عن حالات الانتشاء والطرب… وهما انتشاء وطرب استغلهما نزار قباني بأقصى غايات الاستغلال واستثمرهما استثماراً مادياً مربحاً ومروجا لأنه قدم للفحول لحما طريا وعبيطا يتلمظونه ويتبجحون به وبفتوحاتهم الجسدية المظفرة. القراء... مسؤولون أخيرا علينا أن نتمعن في الافتراض التالي: ماذا لو أن الجمهور العربي انصرف عن شعر نزار وقاطع أمسياته وامتنع عن شراء دواوينه ولم يزده تصفيقا وإعجابا؟! طبعاً سيكون الجواب واضحا وهو أن نزار قباني سيغير موقفه الثقافي وسنرى عنده صورة ثقافية أخرى مختلفة عن الصورة الراهنة. هذا يعني أننا نحن كقراء مسؤولون عن هذا الصنم الذي ابتكرناه لنا وابتكرته الثقافة من أجلنا وصار حالنا كحال الرعايا حينما يصنعون طغاتهم عبر التصفيق لهم فيدفعون الطاغية إلى الرضا عن طغيانه وإلى مزيد من هذا الطغيان. إن الجمهور الراضي والمصفق يربي سيده على مزيد من الغلو والغرور. وهذا ما حدث بالضبط مع نزار قباني، إذ إنه صنيعة الثقافة الفحولية ومخلوق الجمهور المتغذي بهذه الثقافة والمرتوي منها. إن نزار نموذج مطلوب في الذهن الثقافي، ولذا انوجد واستمر وثبت واتسعت رقعة انتشاره وتوزيعه. ولهذا فإنه يلزمنا نقديا أن نشرع في نقد المستهلك الثقافي الجماهيري، لأن نقد هذا المنتوج ذي الشعبية العريضة سيكشف لنا عن العيوب الخطيرة الكامنة في نسغنا الثقافي وسنرى الجميل بمعناه الآخر، أي الشحم داخل هذه التركيبة. ولا بد ان نكشف عن حالات العمى الثقافي التي بسببها نعجب بالعيب ونطرب للخطأ ونطلبه ونسوقه وننصاع له. وإلا كيف نتصور شاعرا حديثا ومبدعا يقدم لنا صورة عن الذات الديكتاتورية الطاغية التي تنفي الآخر وتلغيه وتحول العالم إلى جارية تتوسل لسيدها الفحل بأن يتسرى بها مثلما يتسرى باللغة ويحول الكلمات إلى خدم ومحظيات ينتهك حرمتهن متى شاء لكي يتزوج العالم ويحقق مشروعه في الاستفحال. إذا كان هذا هو النموذج الشعري الاكثر شعبية في مرحلتنا هذه فهل نلوم النماذج الاجتماعية والسياسية إذا كانت الثقافة الشعرية ذاتها هي ثقافة النموذج الديكتاتوري الطاغي والمتفرد والنافي للآخر؟ وختاماً لا بد ان أشير الى ان كلامي هذا ليس نقدا لنزار قباني الشاعر المعين ولكنه نقد للثقافة التي أنتجت هذه الظاهرة، وهو نقد للرعايا من النقاد والقراء - وأنا منهم - فنحن الذين نصنع أوهامنا ونجعلها أصناماً نذل أمامها. وليس قباني سبباً أو بداية، وإنما هو نتيجة ضرورية واستجابة تلقائية لنسق ثقافي مهيمن له الغلبة والسطوة من غير محاسبة أو مساءلة أو نقد. * أكاديمي سعودي