في اللحظة التي فاز فيها، المخرج "اليوغوسلافي" - وهي صفة يصرّ عليها - أمير كوستوريكا، بالجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي، للمرة الثانية عن فيلمه "اندرغراوند" شعر انه وصل الى مجد لا يجرؤ على ان يحلم به اي سينمائي في سنه. كان ذلك في العام 1995. عام السينما وتاريخها. ولكن، في عزّ لحظة المجد القصوى تلك، وقف كوستوريكا وخبط يده على الطاولة وقال انه قرر الاعتزال، والانصراف الى موسيقى الروك التي يحبها اكثر من أي شيء آخر. لماذا؟ ببساطة، لأن "اندرغراوند" بدلاً من ان يحصد اعجاب المفكرين والجمهور، كما حصد اعجاب نقاد السينما، أثار في فرنسا على الاقل - زوبعة سياسية قادها كتّاب وصحافيون اتهموا كوستوريكا بانه يناصر الصربيين على حساب ابناء جلدته البوسنيين. وراحت المقالات تنشر ضده والسجالات تثور من حوله. هل يعتزل حقاً… او انه لن يعتزل؟ كان ذلك هو السؤال الاساسي الذي راود اذهان محبي افلام البوسني الشاب، الذي كان كل فيلم من افلامه، خلال السنوات السابقة، أثار موجة من الاعجاب. الجواب جاء بعد ذلك بأقل من عام: لن يعتزل… كانت حالة غضب عابرة، واكثر من هذا: سيعود الى جذوره، الى هواه السينمائي القديم: عالم الغجر، الذي كان حقق عنه واحداً من اجمل افلامه. وانتظر محبو السينما طويلاً وهم يتابعون تطوير كوستوريكا لمشروعه. واخيراً عرض الفيلم في مهرجان البندقية ايطاليا الاخير، ويعرض حالياً في باريس، وسيعرض في تشرين الثاني نوفمبر المقبل ضمن اطار مهرجان لندن. وكانت المفاجأة ان الفيلم جميل وهادئ، يبعد الف ميل وميل عن "اندرغراوند" وعن صعوبة وتركيبة هذا الاخير. يحمل فيلم كوستوريكا الجديد اسم "قط اسود، قط ابيض"، وهو ولد، في الاصل، من رحم مشروع كانت محطة تلفزة المانية كلّفت به كوستوريكا لفيلم تسجيلي عن موسيقى الغجر "لكني بعد مراحل العمل الاولى، يقول كوستوريكا، ادركت ان فيلماً من هذا النوع لن يعطي صورة حقيقية عن حياة الغجر. الامر يحتاج الى عمل روائي، العمل الروائي وحده يعطيهم حقهم". وهكذا راح المشروع يولد من جديد. بل انه ولد اكثر واكثر خلال التصوير نفسه، لان في الفيلم قدراً كبيراً من الارتجال، خصوصاً وان كوستوريكا استعان فيه بعدد كبير من الغجر غير المحترفين، من الذين راح كل منهم يمثّل حياته الحقيقية… تقريباً. والبعد الروائي جاء كوستوريكا من خلال حكاية رُويت له، فيما كان يستعد لتحقيق الفيلم: حكاية جدّ عائلة مات فيما كانت العائلة تحضر لعرس. ولما كان من المستحيل تأجيل العرس، كان الحل، ان يؤتى بجثمان الميت ويوضع الى الطاولة الرئيسية وكأن شيئاً لم يكن. فيلم "قط اسود، قط ابيض" لا يروي هذه الحكاية تماماً، بل يستخدمها وفي قسم فقط منه. اما الفيلم ككل فمصنوع من حكايات عديدة، مشاهد من الحياة اليومية، الجد والأوز، والشرب والموسيقى والخيانات الصغيرة، والعلاقة بين الاشخاص… كل تلك الامور تذكرنا بفيلم كوستوريكا القديم "زمن الغجر" وترسم لنا، مرة اخرى، تلك العوالم السحرية التي سيخيل الينا في لحظة من اللحظات انها طالعة من رواية لغابريل غارسيا ماركيز. مهما يكن، فإن كوستوريكا يعتبر فيلمه "فيلماً بسيطاً وصغيراً حققته لأني احب الغجر واحب السينما واحب الموسيقى". وهو يشبه استراحة صغيرة بين ضخامة اندرغراوند والمشروع المقبل الذي يحضّر له منذ الآن، نعني بذلك فيلمه المقبل الذي سيكون مأخوذاً - على الارجح - من رواية "الفندق الابيض" ل د. م. توماس وهي رواية اشتهرت لكونها شديدة الصعوبة وليس من السهل، بأي حال من الاحوال، تحويلها الى فيلم سينمائي. ومع هذا سيحاول كوستوريكا ذلك، شرط ان ينتهي اولاً من العمل على كتاب خاص به يحتوي دزينة من المشاهد المنتزعة من ذكرياته الشخصية ومن مساره الحياتي. كوستوريكا بحاجة الى الانتهاء، من هذا الكتاب قبل ان ينكب على "الفندق الابيض" وذلك لأنه بحاجة لأن "ينجز" رواية تاريخه الشخصي قبل ان يرسم من خلال "الفندق الابيض" تاريخ قرننا العشرين هذا. اذ ان رواية د. م. توماس، كما يقول الناقد فيكتور فيتو في مجلة "لونوفيل او بسرفاتور" الفرنسية التي كانت رحبت بالرواية منذ صدورها مترجمة الى الفرنسية في العام 1982، تحكي من خلال رسائل وهمية يفترض ان فرويد كتبها، حكاية امرأة وحياتها الخاصة، التي تتواكب مع حياة زمننا. وعن هذا كله يقول كوستوريكا "أريد من هذا الفيلم ان يرسم صورة للتقارب بين البولشفية والنازية طوال هذا القرن من خلال صورة امرأة". في انتظار ذلك يبدي كوستوريكا سروره بالنجاح المعتدل الذي يحققه "قط اسود، قط ابيض" خصوصاً انه استعان فيه بالعديد من السينمائيين الذين سبق له ان تعاون معهم في افلامه السابقة وخصوصاً في "زمن الغجر"، ومنهم نيل كارالجيك الموسيقي ومغني فرقة "نوسموكنغ" الذي وضع موسيقى الفيلم وواحدة من اغانيه. وعلى هذا النحو، والحديث هنا عن ولادة جديدة لكوستوريكا لن يكون عبثياً، استعاد هذا الفنان علاقته بماضيه، ما جعل النقاد الفرنسيين يقولون عن "قط ابيض، قط اسود" ومن موقع الاعجاب انه يبدو ك "فيلم مخرج مبتدئ" فيه طزاجة المبتدئين، وبراءة السينما في ازمانها الاولى، فيه ضراوة الغجر وتألف فنان يعرف دائماً كيف يتجدد، حتى ولو هدد الف مرة بالاعتزال.