امتطى السلطة باسم الثورة والحرية. اشترى صمت العالم بثروات بلاده. كسب خوف الشعب منه بالعنف والتهديد. هو خلاصة إنسان تائه بين الوعي واللاوعي. أمّا بعد الربيع العربي، الذي أزهر ثورات شبابية عربية مناهضة للظلم والقمع والفساد، فقد أضحى مجرّد طاغية يحكمه لاوعيه الذي جعله يرى نفسه قائداً لا يُقهر. «العقيد» و «مرشد الثورة» و «ملك ملوك أفريقيا» كما يُلقّب نفسه، يرفض أن يُقارن أو يُشبّه ببقية الزعماء العرب أمثال حسني مبارك وزين العابدين بن علي، على اعتبار أنّه «المرشد» وليس مجرّد رئيس دولة. بخطاباته المفكّكة التي كشفت حجم فراغه الداخلي أراد أن يُشوّه صورة الثوار، فاتهمهم بالمجون والجنون والإدمان. ووصفهم بالكلاب الضالّة والجرذان. وذهب أبعد من ذلك مُرتكباً بحقهم أفظع الجرائم الإنسانية. مُعمّر القذافي اليوم هو الشخصية الدموية الأكبر، ليس في حقّ عدوّه بل شعبه الذي ضاق به ذرعاً من قائده الذي صادر أرزاقه وحرياته وحياته الكريمة. فبعدما نجحت الثورات العربية في أن تحني جبهات بعض الحكّام المتغطرسين، بدا القذافي على حقيقته كما الوحش الكاسر الذي يأبى إلّا أن يبقى مُطبقاً بأنيابه الحادّة على شعبه الذي شبع منه حكماً ولؤماً وقمعاً ما يُقارب النصف قرن. لا شكّ في أنّ شخصيته الجدلية، كحاكم ثري يعيش داخل خيمة، مردّداً خطابات هي أقرب ما تكون الى الهذيان، مُرتدياً أزياء فولكلورية كاريكاتورية، حامياً نفسه بدروع بشرية أنثوية، شخصية تجذب بمقومّاتها مخيلّات الكتّاب والمفكرين لصنع «بطل - مضاد» في عمل يروي سيرة ديكتاتور من نوع خاص. وهي فعلاً شحذت اهتمام الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار الذي بدأ منذ انتقال حمّى الثورات إلى ليبيا في البحث والتنقيب في كوامن هذا الطاغية ورواسبه. إلّا أنّ نجّار المعروف برواياته التاريخية لم يشأ هذه المرة أن يستثمر شخصية القذافي فنياً في عمل روائي على شاكلة رائعة غابرييل غارسيا مركيز «خريف البطريك» مثلاً، بل أصدر كتاباً «بيوغرافياً» يروي فيه قصة صعوده من الطفولة إلى الزعامة، مع تحليل لشخصيته المُعقّدة تحت عنوان لافت: «تشريح الطاغية معمّر القذافي». لا شكّ في أنّ الكتاب هو جدّ صائب في وقته وقد انتشرت خلال الفترة الأخيرة الكتب التي تعرض سيَر الطغاة والديكتاتوريين في العالم. وهو أيضاً صائب في موضوعه الذي يأتي كإجابة عن أسئلة كثيرة تزدحم في أذهاننا في الوقت الحاضر: «من هو معمّر القذّافي؟ كيف تحوّل هذا الملازم الثائر المولود في خيمة في الصحراء الليبية إلى «ملك ملوك أفريقيا»؟ ما الذي نعرفه عن هذا القائد الذي احتكر المشهد السياسي الليبي طوال فترة حكمه منذ 42 سنةً؟ كيف استطاع بعد عداوة كبيرة مع أميركا والعرب أن يستعيد ثقتهم؟ وكيف تحوّل بين ليلة وضحاها الى رجل منبوذ؟»... في كتابه الصادر حديثاً باللغة الفرنسية عن دار «أكت سود»، يستشهد ألكسندر نجار بجملة لميشيل تورنييه يقول فيها: «إنّ سلطة الطاغية المطلقة تنتهي دائماً بجعله مصاباً بالجنون»، ويستهلّ مقدّمته بأنّ العقيد معمّر القذّافي يتصدّر قائمة الديكتاتوريين الدمويين منذ أكثر من أربعين سنةً. وفيها يستعين بتعريف معنى الطاغية المُقتبس عن روجيه بول دروا: «هو شخص لا يعرف الحدود. نزواته تُصبح هي الشرائع. وأهوائه تصير مشاريع وطنية ورذائله الشخصية هي دوماً من أجل تعزيز المصلحة العامّة... هو من لا يميّز بين رغباته وحقوقه وموازنة الدولة وبين حساباته المصرفية...». وهذا التعريف يتلاءم في حيثياته وأسلوب معمّر القذافي في إدارة شؤون بلاده ورعيّته. ويؤكد نجار أنّ القذافي ليس ظاهرة جديدة على العالم. فصورته بملامحها العامة، تشبه إلى حدّ ما صورة معظم الديكتاتوريين السابقين الذين تأثّر بهم كهتلر وموسيليني وأمين دادا. فهو الزعيم التوتاليتاري الاستبدادي الذي يتلاعب بالدستور ويصنع قوانين على مقاسه، كما يُعاني جنون العظمة ولا يسمح لأي حزب معارض أو رأي مُخالف بالظهور داخل البلد الذي يحكمه بقبضة من حديد. نتعرّف في «تشريح الطاغية» إلى معمّر القذافي، الابن الأصغر لعائلة بدوية مؤلفة من أم ذات أصول يهودية اسمها عائشة وأب يرعى الأغنام والإبل يُدعى محمد عبدالسلام حامد المعروف ب «أبو منير». وقد شارك هذا الأخير مرّة في فيلم وثائقي عن «حياة العقيد» أنجزه في مناسبة معينة الصحافي الفرنسي إيريك رولو. وفيه تحدّث الوالد وهو في أعوامه التي تجاوزت المئة عن ابنه باعتزاز كبير قائلاً: «ما زال ولدي يحبّ الحياة البدوية، وكلّما أتى إلينا انفرجت أساريره وانتعش. وما زال ينام على الفراش نفسه عندما يقصدنا، إنّه مخلص للمكان الذي ولد فيه، سرت». وعن صفات ولده أضاف: «طالما كان ولدي جديّاً ومتحفظاً وقليل الكلام، وأنا فخور بعمله الثوري ضدّ الاحتلال الإيطالي». وفي فترة من الفترات انتشرت شائعة غريبة جعلت من معمّر القذافي ابناً للطيّار الإيطالي الكورسيكي ألبير بريسيوزي الذي قُتل في روسيا عام 1943 بعدما عاش فترة في الصحراء الليبية. وعن هذه المسألة يقول نجار إنّه على رغم الشبه الكبير الذي يجمع بين الطيّار الإيطالي في شبابه والملازم الليبي الشاب معمّر، إلا أنّ هذه الرواية بقيت تنتشر كخدعة أو نكته يتناقلها الناس على رغم اهتمام بعض الصحافة الأجنبية بالأمر وملاحقته، وهذا ما دفع بالكاتب إلى عنونة الفصل الأوّل من كتابه: «بدوي أم كورسيكي؟». يعرض الكتاب مراحل من طفولة العقيد التي تناولها بعض الكتب والصحف ونستخلص منها أنّ خيال معمّر الطفل كان ملوثاً فعلاً بمشاهد القتل والعنف والدماء. فقصص القراصنة كانت وحدها تستهويه. أمّا والده فكان لا ينفك عن إخباره مغامرات العائلة الثورية وكيف قضى جدّه أثناء مقاومته ضدّ الإيطاليين. وينقل ألكسندر نجار عن إدمون جوف ما رواه القذافي مرّة عن سنوات طفولته: «كنت أرعى المواشي، وأزرع وأحصد. كنّا دائماً تحت القصف، قصف الحرب العالمية الثانية. كانت الدول تتعارك على أرضنا ونحن لا نعرف السبب. المناجم تُفجّر والقنابل تُرمى علينا... هذه هي الذكريات الأولى التي رسخت في ذاكرتي وأنا طفل». وفي شبابه، جذبته شخصية الزعيم المصري جمال عبدالناصر وأصبح أيقونته الكبيرة. ففي سنته الثانوية الأولى كان يسمع راديو القاهرة ويوزع الكتب والمنشورات عن زعيمه الكبير، كما كان يعشق أيضاً الجنرال ديعول وتيتو وماو تسي تونع... وعن القذافي المراهق يقول زميله على مقاعد الدراسة مفتاح علي: «كان لديه أشياء غريبة تُميّزه عنّا. يختلف عن الجميع، ربما هي سلطة فطرية تجعلك تشعر أمامه بأنك أمام قائد. لقد كان بطبيعته قيادياً». إلا أنّ الضابط الشاب الذي خرج من «الثورة البيضاء» بطلاً وتسلّم زمام السلطة في بلاده، لم يكن في البداية الرجل الذي صاره. فعندما حاوره التلفزيون الفرنسي وهو في السابعة والعشرين من عمره بدت عليه علامات الخجل على رغم الغطرسة التي كانت تختبئ وراء ابتساماته ونظراته. إلا أنّ أحداً لم ير فيه صورة الديكتاتور القادم الذي صاره. ففي عام 1969 ظهر معمر القذافي أمام العامة ببزّة عسكرية تخلو من الميداليات وبوجه بشوش لم يُخيّل لأحد أنّه سيغدو الوجه الأقبح من فرط شرّه وعنفه ونرجسيته. وككلّ الديكتاتوريين في العالم العربي يُشارك القذافي فساده المقربون منه وكلّ أفراد عائلته. فهم يستولون على خيرات البلد الغني - الفقير. وللقذافي الذي يُسمّيه نجار في كتابه ساخراً ب «المرشد» تسعة أبناء، وابنته عائشة التي تصفها الصحافة الأوروبية ب «كلوديا شيفر الصحراء» هي المقربة من والدها. ويُقال إنه كان يهيئ ابنه سيف الإسلام للحكم من بعده. أمّا تصرفات ابنه هنيبعل القذرة في جنيف فكانت السبب وراء وقوع أزمة ديبلوماسية بين ليبيا وسويسرا، سحب نتيجتها معمّر القذّافي (وفق صحيفة الغارديان) سبعة مليارات دولار من مصارفها. واعتبر أن قضية توقيف ابنه وسجنه هي إهانة للجماهيرية كلها وليس لآل القذافي فقط. هذا لأنّه لا يفصل أبداً بين ذاته كحاكم وبين البلد الذي يحكمه. وهذا ما يُذكرنا بصدّام حسين الذي كان يُردّد: «أنا العراق والعراق أنا». وبطبيعة الحال، إنّ النقاط المشتركة بين صدّام ومعمّر هي كثيرة ولسنا بصدد تعدادها، إلا أنّ إرادتهما في فرض نفسيهما على الساحة الأدبية ككاتبين متمرسين هي أيضاً من العوامل المشتركة بينهما. وفي هذا الصدد كتب إلياس خوري عام 2004: «هما يلتقيان في الكتابة الإبداعية الخيالية وفي أسلوبهما في التعاطي مع الواقع على أساس أنه عمل خيالي». وعلى رغم الصداقات العميقة التي جمعته بعدد من الزعماء العرب والأوروبيين أمثال الإيطالي برلسكوني والديكتاتور الروماني الراحل تشاوتشيسكو والزعيم الكوبي فيديل كاسترو وصدّام حسين، إلاّ أنّ الكثير من الزعماء الذين راقبوا القذّافي وجدوا فيه شخصية استثنائية في جنونها. فهو «إنسان مضطرب» بعين فرنسوا ميتران و «شخص لا يُطاق» بالنسبة إلى جورج بوش و «كلب مسعور» وفق رونالد ريغان و «مجنون» بعين السادات و «خطر على نفسه وعلى منطقة المغرب العربي» من وجهة نظر الحسن الثاني... أمّا جعفر النميري فاعتبره «إنساناً مزدوج الشخصية»، وهذا ما تُكرسه أفعاله الفصامية التي لا تتقاطع وكلامه البتة. فهو من قال في كتابه الأخضر الشهير إنّ السلطة الحاكمة عندما تصبح ديكتاتورية، فإنّ المجتمع لا يمكنه تصحيح هذا الانحراف إلّا بالعنف... ما يعني أنّ الثورة هي مقابل جهاز السلطة. إنما الواقع ناقض النظرية هنا، ومن الواضح أنّ العقيد لا يُصدّق ما يكتب ولا يؤمن بما يقول. وكذلك كان قتال الإسرائيليين من أولويات القذافي، وهو الذي صرّح غير مرّة: «وجود ما يُسمّى بالكيان الإسرائيلي يتنافى ووجودنا كدول عربية». إلّا أنّه اتُهمّ باختطاف السيّد موسى الصدر خلال زيارته ليبيا، وهو المعروف بعدائه لإسرائيل ومقاومته ضدّها فعلاً وقولاً باعتبارها «شرّاً مطلقاً». كما أنّ الحقيقة التي تجلّت أمامنا منذ أن هبّت رياح الربيع العربي تؤكّد لنا أنّ القذافي هو عدوّ شعبه ليس إلاّ، كما أنّه لا يعرف سوى محاربة أبناء وطنه الذي حوّله الى ما يُشبه الأرض الجرداء القاحلة على رغم ثرواتها الطبيعية والتراثية الكبيرة. ويمضي الكاتب في تشريح الطاغية الذي كان له دور لا يُستهان به خلال الحرب الأهلية اللبنانية بحيث ساهم في تأجيج نار الفتنة الداخلية، وفي هذا الصدد يعتبر الكاتب ألكسندر نجّار أنّ القذافي وإن لم يكن المسؤول عن اشتعال الحرب اللبنانية الداخلية، إلا أنه كان من دون شكّ أحد المسؤولين عن إطالتها من خلال توزيعه الأسلحة والعتاد والذخائر للأحزاب المتصارعة فيما بينها. ويؤكّد أن خلال عام واحد من 1975 إلى 1976، صرف الديكتاتور الليبي 700 مليون دولار للفصائل اللبنانية المقرّبة من الفلسطينيين. كما أنّه يُدعّم آراءه باعترافات عدد من الزعماء والإعلاميين اللبنانيين ومن بينهم زعيم الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط الذي لم ينفِ تلقيه الأسلحة والإعانات من «مرشد الثورة» خلال حوار تلفزيوني على شاشة «إل. بي. سي» في شباط (فبراير) 2011. معمّر القذافي هو في الأساس شخصية إشكالية. أمّا اليوم وبعد جهره بعنفه ضدّ شعبه وانتشار خطاباته التراجيكوميدية: «دار دار، زنكة زنكة»، صار أكثر جدلية من أي وقت مضى. وكتاب ألكسندر نجار ليس إلا عملية نقدية تضع الطاغية تحت مبضع التشريح لنكتشف معاً أغوار نفسه وبواطن علله وكوامن محدوديته. وفي «تشريح الطاغية» نجح الكاتب في أن يُعرّي الطاغية القذافي من خلال كتابة سيرته اعتماداً على وثائق ودلائل ومعلومات لم يُخف الكاتب مصادرها. وهذا ما أراده فعلاً الكاتب الفرنكفوني الشاب بقوله: «درست المراجع الخاصة به وقرأت الكتب التي تناولته وأعدت الاستماع إلى خطبه وتحليل نصوصه والتدقيق في الوثائق التي قدّمها أعداؤه... أردت أن أعريه وأنزع قناعه وأجعله، على رغم ملابسه الفولكلورية الضخمة، يبدو عارياً كدودة أرض». ولا يتردّد ألكسندر نجار في أن يُعلّل نشر كتابه في هذا التوقيت بالذات من خلال تساؤله: «ألا يستحق هذا الإنسان أن تُحلّل خطاباته السطحية واستنتاجاته السخيفة التي أوصلته إلى اعتبار صاحب «روميو وجولييت» كاتباً عربياً كان يُدعى «الشيخ زبير» قبل أن يُدمج اسمه ليُصبح في الإنكليزية شكسبير؟