إحدى أكثر اللحظات متعة في الثورات، وإن كان فيها شيء من التلصص، لحظة دخول الثوار إلى قصور الرؤساء الطغاة، واكتشاف نمط حياتهم وجنونهم اليومي. وكما كان متوقعاً، فجنون القذافي وعائلته تصدّرا مسلسل الغرائب. فمن الحورية الذهبية التي على شكل ابنة القذافي إلى ألبومات صوره، مروراً باستراحات أبنائه المفرطة بالفخامة الرخيصة، ظهر من وراء أسوار القصور عالم يخلط بين أفلام فلّيني وجنون كيم إيل سونغ. وإذا كان لهذه الخلطة وجه طريف، بخاصة بعدما انهار النظام، بقي أن هذا العالم السوريالي أنتج أحد الأنظمة الأكثر قمعية وإجراماً. وشكّل مصير المربّية الإثيوبية شويغا التي تعرضت لأبشع أنواع التعذيب على يد لبنانية متزوجة بنجل الزعيم الليبي، أحد الأمثلة الأكثر تعبيراً عن هذه السادية المنظمة. تشبه تلك القصور القاتلة فيلم «سالو» للمخرج الإيطالي بيار باولو بازوليني، والذي تدور أحداثه حول قصر معزول في إيطاليا سيطر عليه الفاشيون، وحولوه سجناً مارسوا فيه أبشع صنوف التعذيب. والفيلم رحلة تدريجية في أعماق البشاعة الإنسانية، وتحذير من سهولة الانزلاق إلى الفاشية وخطورة التغاضي عن أبسط التجاوزات القمعية. الشبه بين سالو وقصور طرابلس لا يقتصر على التشابه بين أنماط جنون السلطة المطلقة، لكنه أبعد: فهو يطاول نوع الأسئلة التي تواجهها المجتمعات التي عاشت تلك التجارب القمعية. فسؤال بازوليني لمجتمعه، عن فضيحة القبول بالنظام الفاشي وضمانات عدم التكرار يصلح لمجتمعاتنا ويشكّل اليوم التحدي الأساس للثورات. يتواطأ الإعلام العربي والمتعاطفون مع الثورات إذ يستعجلون تقديم إجابة مغرية مفادها أن الطغاة المخلوعين من خارج مجتمعاتهم، حكموها بالقوة والعنف والإكراه. والخلاصة أن ليس هناك درس يمكن استخلاصه من التجربة التي دامت نحو نصف قرن. هذا الأسلوب في التعاطي مع الصدمات التاريخية ليس جديداً. فقد اتبعته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حاصرةً اللوم بشخص هتلر وحزبه، ومبرّئة الشعب الألماني من كل مسؤولية. ولم يُعد فتح هذا الملف إلاّ بعد عقود، حيث تبين مدى تورّط المجتمع مع حزبه. لا عيب في اتباع هذا الأسلوب في المدى القريب وصرف النظر عن بعض الحقائق، ريثما يصبح المجتمع أكثر قدرة على التعاطي معها. ولكن يبقى الخطر أن هذه الرواية، وما تُحدثه من تلطيف، قد يشكّلان مدخلاً لاستبدال القذافي بقذافي أجدّ، عبر حصر اللوم بشخصه، وتبرئة النظام الأوسع الذي حوله حقيقةً دامت أربعين سنة. فالخطوة الأولى لتجنب ذلك ليست في رسمهم شياطين سقطوا علينا من المريخ، بل بالعكس، بإعادتهم إلى تاريخ تشاركنا فيه وإنْ بنسب متفاوتة. هكذا يصار إلى تعميق الثورات وتثبيتها مما يقوم على جرأة طرح سؤال: كيف قبلنا بالقذافي أو مثلائه، وكيف سمحنا لهم بالبقاء حكاماً طول هذا الوقت، وصرفنا النظر عن جرائمهم؟ والأسئلة ليست من باب جلد النفس، بخاصة في هذه اللحظة التي تشكّل فيها الجماهير العربية قدوة للعالم، ولكنْ من باب الحرص عليها. وبالعودة الى ألمانيا، تمّ، في موازاة السكوت العلني عن التجربة النازية، تطهير المجتمع من كل رواسبها، وتحصينه حيال أية سقطة أو انحراف نازي. وهكذا فالسؤال الذي تواجهه الثورات اليوم هو كيفية تطهير مجتمعاتها من بذور الاستبداد كلها، منعاً لسقطة سلطوية قد تعيدنا إلى ما قبل شرارة بوعزيزي. فإدراج القذافي في سياق ثقافي - مجتمعي أعرض، لنبذه تالياً، يبيّن مدى تناغم سلطته مع ممارسات شائعة في عالمنا. فلا تعذيب العاملات بمستغرب في عالمنا العربي، ولا الفخامة المفرطة والرخيصة دخيلة على قيمنا، ولا التسلط السياسي غير مألوف. وكل ممارسة قمعية صغيرة تعبد الطريق أمام «السجن العربي الكبير»، والقبول بها اليوم، بعد تضحيات الشعوب العربية، سيكون بمثابة خيانة للثورات. ولنا أن نلمح انعكاساً لقذافي جديد في معاملة الثوار الليبيين الأفارقةَ والعنف العنصري الذي يمارسونه. فمع كل ضحية تسقط نتيجتها، نقترب أكثر من إعادة إنتاج مجتمع يقبل بقذافي جديد. وهذا يملي الاعتراف بتشابه نظام «الأخ العقيد» ومعظم الأنظمة العربية. ذاك أن تربتها واحدة، وإن كانت الثورات نجحت في أماكن ولم تنجح في أخرى. والقذافي لم يكن فريداً في جنونه، ولا أبناء مبارك في فسادهم، ولا نظام الأسد في إجرامه. وهذا ليس تبرئة لأحد، بل للفت النظر إلى أن الرادع الأساسي لتلك الظواهر ليس الميزات الشخصية للإنسان، بل المجتمع الذي يحيطه ويرغمه على لجم شهواته القاتلة. لقد فعلت عائلة القذافي ما فعلته ليس لأنها سادية بل لأنها تستطيع أن تكون كذلك، تماماً كما فعل الفاشيون في فيلم بازوليني، أو أبناء صدام في العراق، أو الجنود الأميركيون في سجن أبو غريب. واليوم تتصارع صورتان في العالم العربي: الأولى يصنعها الشعب السوري البطل في ثورته، بعدما سبقته الشعوب في تونس ومصر وليبيا. أما الثانية فصورة العفن والفساد والتردّي المركّبة من فضائح الحكام المخلوعين وأسرار بعض الحكام الباقين وجحافل مبرري الأنظمة القاتلة. نتمنى أن تكون الصورة الأولى مستقبلنا والثانية ماضينا. وكي يكون الأمر كذلك، وكي تكتمل الثورات، لا بدّ من العودة إلى مصير المربية الإثيوبية شويغا، التي استكملت بجسدها الحريقَ الذي أطلقه التونسي بوعزيزي.