الأرجح أن قادة أوروبا لا يخافون أن تشكّل المواقع الإجتماعية على شبكة الإنترنت مثل «فايسبوك» و«تويتر»، أداة في تحريض الجماهير عليهم، بالنظر إلى عراقة الديموقراطية في القارة العجوز، لكنهم ينظرون بغير عين الرضا الى إنتشار المعدات الإلكترونية في المدارس. السبب؟ الخوف على صحة الطلاب، خصوصاً صغار السن. إذ أشارت هيئة أوروبية نافذة أخيراً إلى أنّ الهواتف النقّالة والحواسيب المتصلة بشبكة الإنترنت لاسلكياً، تشكّل خطراً على صحة البشر، لافتة إلى ضرورة حظرها في المدارس. ونظر مجلس في «اللجنة الأوروبية للصحة المدرسية» في الأدلة القائلة بأنّ هذه التكنولوجيا تتسبّب «بأضرار محتملة» على البشر. وخلص إلى ضرورة التحرّك فوراً من أجل حماية الأطفال. وأشارت اللجنة في تقرير أصدرته أخيراً إلى ضرورة تجنّب تكرار الأخطاء التي ارتكبت في الماضي حين تباطأ المسؤولون عن الصحة العامة في الإقرار بمخاطر الأسبستوس والتبغ والتدخين والرصاص في البنزين. إبحث عن الموجات الكهرومغناطيسية ألقى التقرير نفسه الضوء على المخاطر الصحية المحتملة التي قد تتأتى من الهواتف اللاسلكية والأجهزة الرقمية المخصصة لمراقبة الأطفال التي تستخدم التكنولوجيا نفسها، وقد باتت رائجة على نطاق واسع في المنازل البريطانية. وأظهر التقرير تخوّفاً من أن تؤدي الإشعاعات الكهرومغناطيسية المنبعثة من الأجهزة اللاسلكية إلى الإصابة بمرض السرطان، وأن تؤثّر في نموّ الدماغ. وخلصت «اللجنة الأوروبية للصحة المدرسية» الى القول بأنه يترتب على الدول الأعضاء تحديد مستويات التعرّض على المدى الطويل للموجات الدقيقة نفسها المنبعثة من الهواتف النقّالة. وأوصت بإضافة معلومات واضحة على المنتجات (على غرار ما يحدث مع علب السجائر)، تشير إلى وجود حقول كهرومغناطيسية أو مخاطر صحية اخرى، مرتبطة باستخدامها. وفي لهجة لم تغب عنها الشِدّة، دعت اللجنة نفسها إلى حظر الهواتف النقاّلة والشبكات اللاسلكية كافة في الصفوف والمدارس، وتنظيم حملات توعية موجّهة للأطفال والشباب حول المخاطر التي تحملها هذه الأجهزة على صحة البشر، وإطلاق بحوث لصنع هواتف نقاّلة وشبكات لاسلكية أقل خطورة. ثمة نقطة يصعب التغافل عنها، إذ تتناقض الاستنتاجات التي جرى التوصّل إليها مع توصيات «منظمة الصحة العالمية» ووزارة الصحة البريطانية، اللتين تعتبران أنّ التعرّض للحقول الكهرومغناطيسية يحمل خطراً قليلاً (أو لا يحمله إطلاقاً) على صحة البشر! ولا يستطيع مجلس أوروبا (مقرّه مدينة ستراسبورغ) الذي يضمّ في عضويته 47 بلداً، أن يفرض إرادته على الحكومات، لكنه يتمتّع بتأثير كبير على صعيد صناعة السياسات العامة. وفي ظروف مماثلة، تحوّلت قرارات المجلس قوانين مندرجة في صلب المعاهدات والإتفاقيات في القارة الأوروبية. وبالإجماع، اعتمدت لجنة تابعة لهذا المجلس تُعنى بالبيئة والزراعة والشؤون المحلية والإقليمية، مسوّدة قرار يدعو الحكومات إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية كافة من أجل تقليص تعرّض الناس للحقول الكهرومغناطيسية المنبعثة من الهواتف النقّالة والأجهزة المماثلة، إلى جانب حظر استخدامها في المدارس. تتألف اللجنة من 48 نائباً وسياسياً من الدول الأعضاء. ويشغل منصب نائب رئيس مجلسها اللورد بريسكوت الذي كان نائباً سابقاً لرئيس الوزراء البريطاني. وأجرت الدول الأعضاء مراجعة للبحوث الأخيرة حول تأثيرات الحقول الكهرومغناطيسية. واطّلعت على أدلة جديدة قدّمها خبراء قبل أن تصدر استنتاجاتها. ومن المقرّر أن تُعرض مسودة هذا القرار على الجمعية البرلمانية في المجلس للموافقة عليها. الصحة في رحى الخلاف سياسياً استخدم نشطاء يعارضون انتشار الأجهزة اللاسلكية هذه الوقائع المكتشفة أخيراً، لدعم وجهة نظرهم القائلة بضرورة حظر هذه الأجهزة في المدارس. ويبدو أنّ الخبراء في مجالي الصحة العامة والاتصالات منقسمون حول المخاطر التي تحملها الهواتف النقّالة والأجهزة اللاسلكية الأخرى. ففي 2007، لفت تقرير صادر عن «البرنامج البريطاني للاتصالات عبر الهواتف المحمولة وبحوث الصحة»، إلى غياب الروابط كافة بين الهواتف النقّالة من جهة، وظهور أضرار صحية على البشر من جهة ثانية، مضيفاً وجوب إجراء دراسة مفصلة حول التأثيرات المترتبة عن استخدام الهواتف النقّالة على المدى الطويل. ولم يجد باحثون آخرون رابطاً بين استخدام الخليوي على المدى القصير وبين الإصابة بمرض السرطان. ورأت دراسة وبائية مهمّة نُشرت في السنة الماضية، أنّ استخدام الهواتف النقّالة على مدى عشر سنوات لا يزيد من خطر الإصابة بمرض السرطان. وفي سياق متصل، أعلن البروفسور ليس باركلي، نائب رئيس مجلس إدارة «البرنامج البريطاني للاتصالات عبر الهواتف المحمولة وبحوث الصحة» أن المجتمع البريطاني لم يكن يملك هواتف نقاّلة على مدى سنوات طويلة، ما يفسر عدم تراكم معطيات كافية حول علاقة الخليوي بصحة البشر. واستنتج ضرورة إجراء دراسات للنظر في تأثير هذه الأجهزة على المدى الطويل. وأضاف: «تبدو الأدلة قليلة حاضراً حول التأثيرات المضرة لهذه الأجهزة. كما يلاحظ أن الطاقة المنبعثة من الهواتف النقّالة ضئيلة إلى حدّ أنها لا تزال تحت الحدود التي أرستها «اللجنة الدولية للوقاية من الإشعاعات غير المؤيّنة». لذا، أعتبر حظر الهواتف النقّالة والشبكات اللاسلكية في المدارس خطوة بعيدة عن أن تكون مُلحّة». في سياق مماثل، بيّن البروفسور بول إليوت من «مركز إمبريال كولدج» في لندن الذي يدير دراسة دولية أساسية تشمل 200 ألف شخص حول تأثيرات استخدام الهاتف النقّال على المدى الطويل، أنه يعتقد بوجود أسئلة مهمّة حول ما إذا كانت الهواتف النقّالة تملك تأثيرات على الدماغ، أو أنها تؤثر في النوم. وتابع قائلاً: «تعتبر تكنولوجيا الهاتف النقّال مفيدة جداً، لكن يتعين علينا أخذ التأثيرات الصحية المحتملة بعين الاعتبار، كما يتعيّن علينا إجراء بحوث حول هذا الموضوع. لم تُجر بحوث كافية حول تأثيرات هذه الأجهزة على الأولاد، وبالتالي يجب إجراء المزيد منها في هذا الميدان. لكن يفضّل في هذا الوقت عدم استخدام الخليوي بإفراط». ورحّبت منظمة «باور ووتش» وهي مجموعة بحثية تهدف إلى رفع الوعي حول مخاطر الحقول الكهرومغناطيسية، بمسودة هذا القرار. وأشار ناطق باسمها إلى إعتقادها بأن الحكومات الأوروبية كان عليها أن تتخذ إجراءات حيال هذه المسائل منذ زمن طويل. وفي نفسٍ مُشابه، حذّر راسيل هوبي الأمين العام ل»الجمعية الوطنية لمديري المدارس» في المملكة المتحدة، من إمكان أنّ يتسبّب حظر الهواتف النقّالة والشبكات اللاسلكية في المدارس باضطرابات كثيرة. وأضاف: «سيكون التأثير على المدارس كبيراً. إذ يملك معظم المدارس حاضراً شبكات لاسلكية من نوع «واي فاي» تربط بين الخليوي والكومبيوتر المحمول من جهة، وشبكة الإنترنت من الجهة الاخرى. ويحمل التلاميذ والأساتذة الهواتف النقّالة بإستمرار. ويميل عدد كبير من المدارس إلى استخدام الحواسيب النقّالة حتى يتمكّن التلاميذ من أخذها معهم إلى المنزل لإنجاز فروضهم. ومن شأن هذا الإجراء أن يمنعهم من القيام بهذا الأمر». وعلّق ناطق باسم وزارة الصحة البريطانية على هذا الموضوع قائلاً: «نحن نراجع الأدلة العلمية المتوافرة، لكننا لم نُحدِث تغييراً في توجيهاتنا لحد الآن. ويمكن تلخيص هذه التوجيهات بضرورة أن يستخدم الأولاد الهواتف النقّالة لغايات أساسية، وأن يجروا مكالمات لمدة قصيرة». * القسم العلمي - بالتعاون مع مركز الترجمة في «دار الحياة»