عشرات بلايين الدولارات تعهدت حكومات عربية بتقديمها خلال الأشهر الأخيرة على شكل هبات، تبدأ من زيادة في الرواتب ولا تنتهي بتوفير بعض المواد الغذائية مجاناً للمواطنين. في هذا خيرٌ وبركة، لأن توزيع الثروة الوطنية على الناس أمر محمود بلا شك. لكنّ مراجعةً لبنود هذه الهبات تُظهر أنها ذهبت في الغالب لتغطية احتياجات آنية قد تزيد معدلات الاستهلاك وتفاقم التضخم، بينما تكاد تغيب عنها مخصصات تدعم القدرة الإنتاجية وتُستثمر في البحث العلمي وحماية البيئة وتطوير البنى التحتية. من الضروري تأمين العدالة في توزيع الدخل، في موازاة تدابير تضبط أنماط الاستهلاك. ومن هذا رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والماء، بغية التشجيع على الكفاءة وترشيد الاستخدام. وإذا كانت حجة دعم الأسعار أن الدخل الفردي منخفض، فلا بأس بأن يصرف المستهلك جزءاً من الزيادات الموعودة على أسعار أكثر واقعية، لأن الموارد المجانية هي موارد ضائعة، من الماء الى الوقود والكهرباء، في البيوت والمزارع والمصانع وعلى الطرقات. فدعم أسعار خدمات المياه أو تقديمها مجاناً في بعض البلدان، أدى إلى أدنى درجات الكفاءة في الري، حيث مازالت معظم البلدان العربية تعتمد أساليب تهدر 50 في المئة من المياه المستخدَمة في الزراعة، ناهيك عن إنتاج محاصيل تقل قيمتها الاقتصادية عن القيمة الفعلية للمياه التي تحتاجها. هل يعقل، مثلاً، أن يكون أكبر منتج ومصدّر للألبان في المنطقة أحدَ البلدان الأفقر في مصادر المياه العذبة، مع العلم أن إنتاج ليتر واحد من الحليب يحتاج إلى ألف ليتر من المياه؟ وهل يعقل في بعض الدول العربية الأكثر جفافاً، أن يتجاوز استهلاك الفرد للمياه المعدلات العالمية، وهي منتَجة بأغلى أساليب تحلية مياه البحر؟ ولنتذكر أن ما يدفعه المستهلك سعراً للمياه، حيث هناك سعر لها، لا يتجاوز عشرة في المئة من كلفة التحلية. ومع الدعم غير الواقعي لأسعار المحروقات، أصبحت الطرقات العربية حلبات للسيارات ذات المحركات الكبيرة المفرطة في التلويث واستهلاك الوقود، في غياب أي مؤشرات جدية لرفع الدعم واعتماد سلّم تصاعدي للضرائب على السيارات، وفق كمية الملوثات الصادرة عنها. ولا بد من أن يرافق هذا تطوير لشبكات النقل العام، واعتماد تنظيم حديث للمدن يأخذ في الاعتبار سبل التواصل بين مراكز السكن والصناعة والعمل والترفيه. ووضع أسعار واقعية للمحروقات ينسحب على الكهرباء، المدعومة أسعارها بدرجات متفاوتة، ما جعل بعض البلدان العربية بين الأكثر هدراً والأقل كفاءة في العالم. وقد يكون بين الأغرب في موجة الهبات تقديم مواد غذائية مجاناً في بلد لم نسمع يوماً أن مواطنيه يعانون الجوع أو سوء التغذية، بل العكس. نأمل في أن تكون الخطوة التالية تخصيصَ اثنين في المئة من الدخل القومي لعشر سنوات، كالتزام أولي وليس لمرة واحدة، لدعم التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر. وفي طليعة المجالات التي يمكن صرف هذه المخصصات فيها: البحث العلمي المؤثر في المجتمع والداعم للإنتاج، وأيضاً إنتاج الطاقة النظيفة، وترشيد الاستهلاك وتعزيز الكفاءة في الأبنية والمنشآت الجديدة والقائمة، بما فيها المعدات والتجهيزات الموفِّرة، والتحول إلى أنماط فعالة في الزراعة، خاصة بتعديل أساليب الري واختيار المحاصيل الملائمة، والحدّ من خسارة المياه في شبكات التوزيع أو من جراء التلوث، مع تعميم معالجة مياه الصرف لإعادة استخدامها، وتطوير تقنيات محلية ملائمة للتحلية. وتطوير النقل العام. ودعم تحول الصناعة إلى الإنتاج الأنظف... واللائحة تطول. قد تعالج بعض الدول الإفلاس المالي بطبع أوراق نقدية، لكنها لن تستطيع معالجة الإفلاس الناتج من هدر موارد الطبيعة وتلويثها بطبع التراب والهواء والماء. من هنا ضرورة تخصيص استثمارات جدية لرعاية البيئة، فضمان المستقبل المستقر هو الضمانة الحقيقية لرضى الناس. * ناشر ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية» [email protected]