لا تزال وقائع الثورات العربية تحكم النتاج الثقافي والفكري حتى اليوم، بما قدمته من إلهام سخي في مفاهيم التغيير والإصلاح عند البعض، وما شكّلته من صدمة عنيفة للبعض الآخر أجبرت أصحابها على ضرورة المراجعة والتصحيح ولو في الوقت الضائع، خروجاً من مأزق البقاء وحيداً أو متهماً في ساحة لم يعد فيها أنيس أو جليس، وحفظاً لماء الوجه الذي انسكب منه الكثير في نفاق الأنظمة الزائلة، وهذا الحال الأخير ينطبق على من كتب رغبة في الجماهير واستجلاب القراء من خلال بوصلة الميول الشعبية والرسمية لا من خلال قناعات راسخة وثابتة لا يهمه بعدها الموافق أو المخالف. الحقيقة التي ظهرت مع الثورات هي التغيير الذي جلبه الشباب إلى واقعهم المجتمعي، والأفكار والمفاهيم التي برزت مع هذا الحدث الاستثنائي، على غرار ما حدث في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي من بروز الأفكار الشيوعية من خلال الثورات في بعض البلدان، ومثلها القومية والبعثية والناصرية بعد نكسة 1967 وغيرها من وقائع شهدت حالة من المفاهيم الانعكاسية، بالتالي دخلت أطراف عدة المنظومة الثقافية العربية، إما بحثاً عن بدائل تغيير مصيرية، أو تأكيد هوية الإنقاذ الإسلامية من حملات التشويه والاستنكار التي أظهرها بعض مثقفي القرن الماضي على اختلاف مشاربهم الفكرية. أما الحالة الإسلامية المتمثلة بفقهاء الشريعة ومن دار في فلكهم من دعاة ووعاظ، فدورهم جوهري وعميق في التأثير في الشارع والرأي العام، لكونهم يملكون معرفة الموقف المخلِّص من الانحراف وبالتالي طريق النجاة من المعصية، وهذا سبب موجب لإقبال الجماهير المسلمة عليهم، كذلك لديهم قدرات تواصلية مع شرائح المجتمع كافة من طريق المنابر والفتاوى والاحتياج الروحي الذي لا يستغني عنه أحد من أفراد المجتمع، هذه الفرادة في التأثير لا تزال محل امتعاض شديد للتيارات كافة من غير الإسلاميين، ولعل أبرز مثال ظهر في الثورات العربية الحالية موقف الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في دعمه وتشجيعه ثورة تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن ما جعل الأنظمة وحلفاءها يعجزون عن الحد من تأثيره أو إيقاف صوته المزلزل لكيانات عتيقة تملك القدرات المالية والإعلامية، ولكنها أخفقت في امتلاك الضمير الإنساني العصي عن الإقناع بالزيف والخداع والإرهاب البدني والفكري، هذا الأنموذج من الفقيه المعاصر قد لا يتأتى لكل مُدّعي الفقه، ولكن قطعاً أن هناك دوراً محورياً للفقيه والواعظ المعاصر تتشكل حوله دوائر قد تتسع أو تضيق، ولكن تجذب في فلكها أعداداً قد تملك التغيير أو تساهم في صناعته ولو على مستوى الأفكار والقناعات الفردية أو الفئوية. أمام هذه الحالة الجاذبة والصانعة والملهبة في تغيير الأنظمة وتثوير الشعوب من أجل الحصول على حقوقها، أجد من المهم التنبيه إلى بعض المفاهيم التي قد تضبط الحماس العاطفي بحيث لا يتداخل مع الموقف الشرعي، و تلفت الانتباه إلى موازنات فقهية أخرى قد تمنع المباح وتسوّغ المكروه وفق مقصده الآني أو المآلي، ولعلي ألخصها في النقاط الآتية: أولاً: الإصلاح السلمي والتغيير من خلال معطيات الواقع التقني الناعم، لا يعني دائماً الخروج ضد سلطة الحاكم الشرعي، ما دام المطالبون التزموا بحقوقهم التي كفلتها الأنظمة الرسمية لهم، ولم يحصلوا عليها على رغم المطالبات الفردية المتتالية، ولم يقم بالدفاع عنها أو المطالبة باسم أهلها من يمثلهم في التعبير أمام سلطة الحاكم كأهل الحل والعقد أو المجالس البرلمانية والشورية، فهنا نقف أما تساؤل ديني كبير في مدى تسويغ الشريعة لهذا الحاكم بالبقاء والاستمرار، من خلال منحه سلطةً مطلقةً للقهر والاستبداد من دون أي رقابة عليه أو مساءلة له! هذا الواقع المرّ لبعض الأنظمة العربية لا يُبرِّر الاتكاء على شرعية افتقدتها بكثرة المخالفات والتمادي في الظلم ومنع شريعة الله من العمل بها؛ بل حرب الداعين إليها علناً من غير مواربة، كما أن السمع والطاعة للإمام حتى الظالم ليست مساءلة تعبدية؛ بل هي مرهونة بإقامة نظام الحياة وإظهار شعائر الدين، أو الخوف من حصول فتنة القتل للخلق عند السعي في تغيير النظام لمن لا يملك القدرة والشوكة (القوة)، فهذه المسائل الكبرى عند تنزيلها لواقع معين ينذر بخطر كبير ويوجب تضحيات جسيمة، أقطع بأنها ليست موكلة للشباب الراغب في الثورة كي يؤصلها ويقدرها أو يوازن بينها، بل هي من قضايا الأمة المصيرية التي تحتاج إلى نظر الراسخين في العلم من أهل الفقه والعدالة ممن لا يخافون في الله لومة لائم. ثانياً: تظهر على ساحة الثورة مفاهيم المواطنة كإشكال يتذرع الطرف الحكومي بالانتماء لها ويتمسك المطالبين بالإصلاح بأنهم أكثر إخلاصاً للوطن وتضحية له ولو بتحمل تبعات المواجهة مع من يوصفون بالخونة والمفسدين، وبالتالي أصبحت المواطنة سلاحاً للخصمين يشهره في وجه عدوه بمفهومه الخاص لتبرير كل ممارسة ضده، والموقف الفقهي وإن كان لم يُحرِّر بعد مفاهيم المواطنة في شكل واضح كي يتمايز فيه أصحاب الخيط الأبيض من الإصلاحيين والخيط الأسود من المدعين المغرضين، كان لا بد من بحث هذه المصطلح بعيداً من استدعاء تاريخ الأمة الواحدة إبان الخليفة الواحد والجيش الواحد، لأن الواقع مختلف ومصادمته غير ممكنة، إضافة إلى أن أبواب السياسة الشرعية العامة في الفقه قد تخدم بمقاصدها الكلية حقيقة المواطنة القائمة على حصول الكافة على حقوقهم من دون تمييز، بالتالي قيامهم بواجباتهم من دون تمييع، وكما أن تراب الوطن شمل الجميع فلا يُخص منه طرف أو جزء بأفضلية دون الآخر، والمواطنة المعاصرة هي عقدٌ جمعي، وشراكة بين الراعي والرعية، واختلاف المهام بينهم تقتضي تنوع الواجبات وفق طبيعة الثغرات والأعمال المطلوبة، وأهم هذه الواجبات ما تعلّق بحقوق الكافة ومصالح الجماعة كالثروات العامة، وأمن البلاد وحراسته من عدوه، وسلامة البيئة، وضمانات العيش الرغيد وغيرها، فهذه أهم واجبات السلطة تجاه مواطنيها، والمزايدة من قِبل البعض على حب الوطن بتثبيت مفاهيم الولاء للحاكم فقط وتحميل البقية واجبات الانتماء، من دون سد الخلل في تصرفاته السلطوية، وتقويم اعوجاجه وتصحيح أخطائه، هو إساءة للوطن وغش للحاكم وإضعاف لدوره، وتأليب الغوغاء لإحداث الفتن والفوضى. ثالثاً: يصحب الثورات العادلة فوضى وهدر لكثير من المكتسبات بطريقة ظالمة، قد يُميتان الأحياء ويُفسدان الحياة، وحفظ نظام الحياة بصلاح معاش الناس من أعظم مقاصد الشريعة، وهذا المقصد قد يَغيب عند هياج التصادم واندلاع المواجهات وانسكاب الدماء، فالسلمية في المطالبة قد تنحرف بفعل المصادمة مع قوات الأمن الحكومي. لذا، ينبغي أن يعي المُطالبون بالإصلاح ضرورة أن لا يفضي عملهم الى الوقوع في مفاسد أو مظالم أعظم، مثل تعمد قتل الأبرياء وتسويغ دخول أعداء الداخل أو الخارج من المتربصين بالثورة الدوائر، أو القضاء على مكتسبات الدولة والمجتمع بالتكسير والتدمير للآثار والمباني الرسمية والخدمات العامة، يُضاف إلى ذلك أن الشباب الثائر من غير حكمة العقلاء وتؤدة أهل الرأي قد يتحول من أداة إصلاح إلى معول فساد، ووجود الفراغ القيادي ينذر بخطر التشرذم والتنازع عند الاختلاف وهذا لا محالة واقع، لهذا تتجه الأنظار إلى قيادة أهل الشرع الملامسين لنبض الشعب، وتوليهم مسؤولية التوجيه والضبط كونهم أقرب قيادة تنقذ الموقف من الانحراف نحو ما ذكرت من أخطار وأشرار قد تحيق بالثورة الفساد، خصوصاً عندما يطول أمدها ويمتد سعيرها، هذه المسؤولية التي أوجبتها فريضة الوقت تقتضي مع الفقه؛ الاجتماع على الرأي في تقدير المصالح ومعرفة المآلات والاعتدال في النظر، بعيداً من أهل الشغب من دعاة التطرف وخطباء البغي الموتورين بالانتقام والتشفي، وأختتم مقالي بأن تلك الرؤى محض اجتهاد لعلها تخفف من غلواء الجنوح الذي وصل إليه بعض الثورات، وتعيد لأهل الفقه والرأي الديني مسؤوليتهم التي تلاشت مع الوقت، وإن كان فيها من عموم فلأن الثورات باتت مشتعلة في أكثر من قطر، والتأييد أو الرفض لها قد مضى زمانه، كونها أصبحت واقعاً فرض نفسه على الجميع، ولكن تقليل أوجاعها وأخطارها واجب أهل الفقه والنظر، والله المستعان وعليه التكلان.