بعد عصر اكتمال التشريع واتساع مساحة الدولة الإسلامية، ودخول أجناس عدة وشعوب مختلفة الثقافة والتقاليد فيها، واجه المسلمون أوضاعاً ومسائل جديدة، حيث وجد الفقهاء أنفسهم مطالبين بضرورة البحث عن حلول وإجابات عملية لما يستجد من مشاكل أو وقائع ظهرت مع تطور الحياة واختلاف البيئات. وكان هذا البحث هو البداية الحقيقية لتطور الفقه الإسلامي، في شكل مدارس أو مناهج فقهية اتسم كل منها بطابع خاص في فهم نصوص الشريعة. ويشير محمد قاسم محمود المنسي في كتابه «تغير الظروف وأثره في اختلاف الأحكام في الشريعة الإسلامية» (دار السلام للنشر والترجمة والطباعة والتوزيع - القاهرة) إلى أن هذا البحث أيضاً هو الأساس الذي أُقيمت عليه نظرية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ذلك أن الاجتهاد – وهو مجهود عقلي صرف – لا يستهدف فقط إنشاء أحكام جديدة في مسائل لم ترد فيها نصوص خاصة من القرآن والسُنة، وإنما يستهدف أيضاً إعمال الجهد، في تفهم نصوص الشريعة، وخصوصاً تلك التي تقبل تعدد المعاني والتفسيرات، وفق الظروف والملابسات التي تحيط بالواقع، مجال التطبيق، ابتغاء الفهم الصحيح والتطبيق السليم، الذي يتفق مع مقاصد الشريعة ويحقق مصالح الناس في الوقت نفسه. ولئن كان ميدان البحث في نصوص الشريعة يدور حول المعاني والدلالات التي يمكن أن تستخرج منها في ضوء المعطيات اللغوية والتشريعية، التي تكون مادة الأحكام، فإن ميدان البحث في الواقع بظروفه وملابساته يدور حول الخصائص التي يتميز بها واقع عن آخر، من حيث العوامل المؤثرة في تشكيله، والمشكلات التي تواجهه. إن العلاقة بين النص والواقع علاقة جدلية، فالنص يؤثر في الواقع من حيث الأحكام والضوابط التي يحكم بها حركة هذا الواقع، والواقع يؤثر في توجيه النص من حيث اختلاف الظروف والأشخاص والوقائع. وحول تفسير ذلك يشير الباحث إلى أن النص جاء في الأصل حاكماً للواقع، ومهيمناً عليه، وهذا مقتضى ثبوته وعدم قابليته للتغير. وبعبارة أخرى هذا هو الدليل العملي على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ومن ثم تظل وظيفة النص ثابتة، وهي ضبط الحركة الواقعية بما يتفق مع مقاصد المشرع، ويحقق مصالح الناس. أما الواقع فإنه يتسم دائماً بالتغيير، وينشأ عن هذا التغير وقائع جديدة تقتضي أحكاماً جديدة، قد تعارض أحكامها الأصلية، إذ ان وحدة الحكم تقتضي تشابه الظروف، وهذا غير واقع، لأن الظروف تتغير باطراد، ومن ثم وجب اعتبارها عند إنشاء الأحكام وصياغتها، حتى لا يؤدي إغفال هذه الظروف إلى تطبيق أحكام تناقض مقاصد الشرع. ويؤكد الباحث أن هذا يوجب ألا ينقطع الاجتهاد لأن الظروف في تغير مستمر، كما أنها تؤثر في تشكيل علّة الحكم، وتوجيه الاستدلال بمدركه الشرعي. ومن ثم فإن تغير هذه الظروف يكون سبباً في اختلاف الأحكام الشرعية، ذلك أن الحكم يتعلق – عند التطبيق – بواقع ذات ملابسات وأحوال محددة، فإذا ما تغيرت هذه الملابسات أو الأحوال، كان ذلك علامة على أننا أمام وقائع جديدة تستلزم أحكاماً جديدة، وهكذا تختلف الأحكام باختلاف الظروف. وبناء على ما سبق فإن الإشكالية التي يعالجها الكتاب هي: هل كل تغير في الظروف يستلزم تغيير الحكم الشرعي؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي – وإنها كذلك – فما هي ضوابط هذا التغيير؟ وفي سياق الإجابة عن هذين السؤالين، يسعى الكاتب إلى أن يُثبت مدى قدرة الفقه الإسلامي على مواجهة الظروف المتغيرة، خصوصاً في زماننا، الذي شهد تغيرات واسعة في ميادين مختلفة، تتسم بالتعقيد والحداثة، الأمر الذي أثار التساؤل حول مدى ما يمكن أن يقدمه الفقه الإسلامي من حلول للمشكلات التي نشأت في ظل هذه التغيرات. مادة الكتاب تتوزع على أربعة أبواب: الباب الأول تناول فيه المؤلف تحديد المصطلحات، أحكام الشريعة بين الثبات والتغير، مراعاة أصول الشريعة للتغير في الظروف، وفيه درس المسائل التي تدل على مراعاة الشريعة لظروف الواقع الذي تطبق فيه الأحكام الشرعية من خلال القرآن والسُنة، والاجتهاد. والباب الثاني استعرض «الظروف، أنواعها وأثرها»، حيث درس أهم الظروف التي تستلزم تغير الحكم الشرعي بما يتفق مع مقاصد الشريعة، ويحقق مصالح الناس، وهي على النحو التالي: تغير العرف، المشقة والحاجة، الضرورة، تغير أحوال الناس (فساد الزمان). وأما الباب الثالث فأشار إلى «الأصول الشرعية التي يستند إليها الفقه في تغير الأحكام بتغير الظروف» وهي: الاستحسان، سد الذرائع، المصلحة المرسلة، بينما تناول الباب الرابع «ضوابط تغير الأحكام بتغير الظروف» موضحاً فيه أهم الضوابط التي ينبغي الالتزام بها عند بحث هذه القضية، إذ ليس كل تغير في الظروف واجب الاعتبار في الشريعة الإسلامية، وإنما هناك تغير معتبر تقبله الشريعة وتتسع له، وآخر غير معتبر لا تقبله ولا تتسع له، لأنه يتعارض مع أحكامها ومقاصدها، ومن ثم لزم «ضبط» الظروف التي يلزم فيها الحكم عن الأخرى التي لا يلزم فيها ذلك. واختتم الباحث دراسته بالإشارة إلى أنه أولاً: في ما يتصل بحقيقة التغير وموقف الشريعة منه: لا بد من التفرقة بين نوعين من التغيرات: تغيرات إيجابية، ظهرت في واقع الحياة نتيجة طبيعية لرقي الإنسان ونموه العقلي، وارتقائه في الأسباب والوسائل المادية، تغيرات سلبية، نتجت من محض الرغبة في تقليد الأنظمة أو العادات التي ظهرت في مجتمعات لا تعترف بالشريعة. وحول قيامه بالتفرقة بين هذين النوعين، أرجع ذلك إلى أن التغير – عادة – لا يمضي في اتجاه واحد، بل يمضي في اتجاهات مختلفة، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، ومن ثم يختلف موقف الشريعة من كل منهما: فالتغير الإيجابي ينبغي الحفاظ عليه وتطويره، أما التغير السلبي فينبغي رفضه ومقاومته أو تعديله بحيث يصبح موافقاً لمقاصد الشريعة وأهدافها. ثانياً: أن التغير الذي تعتد به الشريعة ويُبنى على أساسه القول بتغير الأحكام، يشترط فيه عدة شروط منها «ألا يكون مخالفاً للنصوص الشرعية لأن الشريعة جاءت حاكمة للواقع لا محكومة به. ومقتضى ذلك أنه إذا تعارض التغير – بصورة قطعية – مع بعض أحكام الشريعة فإنه لا يلتفت إليه، مهما كان له من القبول والانتشار، لأن الالتفات إليه في مثل هذه الحالة يعد إهداراً أو تعطيلاً لنصوص الشريعة. ثانياً: أن يكون مطرداً أو غالباً ويعني المؤلف بذلك أن يكون التغير استقر في حياة الناس، وتابعوا العمل به وصار أمراً شائعاً بينهم، ومن ثم لا يلتفت إلى التغيرات النادرة أو التي لم يتحقق فيها شرط الاطراد وغلبة الاستعمال. ثالثاً: أن يكون جوهرياً ونعني بذلك أن التغير يكون جوهرياً إذا ترتب عليه أحد الأمور هذه: اختلال مصلحة من المصالح الضرورية للناس، كمصلحة حفظ الدين أو العقل أو النفس أو النسل أو المال، وقوع الناس في الحرج والمشقة المعتبرين شرعاً حدوث تغير جوهري في فطرة الإنسان بحيث يصبح كائناً مختلفاً عن الإنسان الذي خلقه الله. رابعاً: أن يكون يقينياً أو قريباً من اليقين: ويُقصد بذلك أن ما بُني من الأحكام الفقهية على ما كان متاحاً من معارف وخبرات العصور الماضية، لا يؤخذ به، إذا تغيرت هذه المعارف، بصورة يقينية أو قريبة من اليقين، اذ لا يصح بناء الأحكام الفقهية على معارف لا تزال في طور الدراسة أو الظن، أو لم ترق إلى اعتبارها حقائق علمية. خامساً: أن يكون موافقاً لمقاصد الشريعة، ونعني بذلك أن كل ما يحقق مصالح الناس - التي هي مقاصد الشريعة - من السياسات أو التدابير التي يحدثها أولو الأمر، ويقتضيها التطور الاجتماعي، يدخل في إطار الأعمال الشرعية - مع أنه لم ينص عليها بذاتها - لأن الشريعة لم تحصر كل الوسائل التي يتوصل بها إلى تحقيق مصالح الناس، اتساقاً مع منهجها في إجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير. ثانياً، وفي ما يتصل بأثر التغيير في اختلاف الأحكام، فقد توصل الباحث إلى أن الأحكام الشرعية، المنصوص عليها، وإن كانت تتسم بالثبات وعدم التغير، إلا أنها تتغير، عند التطبيق، بسبب اختلاف الظروف، وهذا التغيير لا يُعد من باب نسخ الحكم أو تعطيله، إذ لا يجوز ذلك بعد عصر التشريع، وإنما مراعاة لأحوال الواقع المختلفة، حيث يتطلب الأمر، في بعض الظروف، إباحة المحظور، أو حظر المباح، وذلك دفعاً للتناقض بين جزئي الشريعة وكليها، وحرصاً على الأصل التشريعي العام وهو جلب المصالح ودرء المفاسد إن الحكم – الذي بُني على اجتهاد فقهي – يتغير بتغير الظروف، زماناً ومكاناً، بسبب تغير الأعراف، أو حدوث المشقة، أو وقوع الضرورة، أو تغير أحوال الناس، فكل هذه ظروف مؤثرة في اختلاف الأحكام. ومن ثم فإذا كان الحكم الفقهي مبنياً على عرف سابق أو ترتب على العمل به، في غير زمانه ومكانه، وقوع الضرر أو المشقة، فإن المصلحة تقتضي أن يتغير الحكم دفعاً للضرر أو المفسدة. ثالثاً، في ما يتصل بالأصول الشرعية التي يستند إليها الفقه في تغير الأحكام، أشار الباحث إلى أن الفقه الإسلامي أقر مبدأ التغير في الظروف، وبُني عليه جواز اختلاف الأحكام، وذلك من خلال أصول فقهية منضبطة، وهي: الاستحسان، وسد الذرائع، والمصلحة المرسلة. من خلال هذه الأصول استطاع الفقه الإسلامي أن يواكب المتغيرات الاجتماعية، وأن يلبي حاجة المجتمعات المختلفة إلى التشريعات التي تتطلبها حياة الناس، ومعاملاتهم. ويؤكد الكاتب أن الفقه الإسلامي لا يزال قادراً – بهذه الأصول – على تلبية حاجة المجتمع المعاصر إلى التشريعات المختلفة، على رغم تغير الظروف واختلاف الحاجات. فاستحسان وسد الذرائع يمكن أن يسهما في حل المشكلات المتعلقة بتطبيق الأحكام الشرعية – في الواقع المعاصر – وذلك إما باستثناء الحالات أو الوقائع التي سيؤدي فيها التطبيق إلى ضرر معتبر شرعاً أو بتأجيل العمل بالحكم بصورة محددة، إلى أن تتوافر الظروف المناسبة التي يؤدي فيها التطبيق إلى نتائج إصلاحية، وإما بإباحة المحظور أو حظر المباح، إذا دعت الضرورة إلى ذلك. أما المصلحة المرسلة فإنها توفر سنداً شرعياً لكافة التشريعات التي تتعلق بالأوضاع التي آل إليها حال المجتمع المعاصر، ذلك أن كل ما يحقق مصالح الناس يعتبر عملاً مشروعاً، وإن لم ينص عليه بذاته، ما لم يكن مخالفاً لنص شرعي أو يؤول إلى مخالفته.