لا تختفي ابتسامة البراءة عن محيا «مهنا بن عبدالعزيز الحبيل» وهو يتذكر أيام الطفولة في حي «سعودي كامب» في الظهران، حيث الخيالات الصغيرة عن «سينير» أرامكو (حي كبار الموظفين) والمحاولات الشقية لتجاوز الأسوار ورؤية أشجار الزينة في أعياد الكريسماس، وصولاً إلى ذكريات الانصهار في مدرسة «سعودي كامب» مع الأقران القادمين من حواضر وبوادي السعودية. شخصيته بعد الطفولة مزيجٌ من تربية أبٍ، وصعوبات حياة. فالأب شخصية اجتماعية تدينت تديناً أصيلاً، روى له التاريخ وعلمه كيف يُعاشر الناس، ورأى منه كيف ينتقد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الشخصيات التي تتخذ التدين وسيلة للفساد. والحياة أرته وجهها الشاحب، وأجبرته على الخيارات الصعبة.التزم دينياً فانخرط يدرس فقه المالكية، واستأثر حديث العدالة السياسية فيها بلب عقله، قبل أن تجذبه طموحات «إصلاح الأمة» في أبجديات حركات الوعي الإسلامي، وسيكتشف لاحقاً أنها بحاجة لأن تكون أكثر عمقاً وواقعية. ينتقد حصر شمولية الإسلام في خطاب الوعّاظ، ويؤمن بالاستقلالية وحق الإنسان في اختيار مسارات حياته. يعترف بأخطاء خطابات الاستفزاز، ويدعو إلى بناء قنوات الشراكة المتوازنة تحت المرجعية الواحدة، لتتناغم ألوان الطيف باحترامٍ متبادل نحو تنمية وطنية شاملة... فإلى تفاصيل الحوار: خيالات الطفولة عما يحويه «سينير» أرامكو، وقصص الآباء عن تاريخ الشركة... كيف صنعت طفولة من عاشوا في «سعودي كامب»؟ - أخذت عن والدي كثيراً من تاريخ المنطقة، فوالدي كان راويةً للتاريخ الاجتماعي وأرشيفاً ضخماً ودقيقاً للتاريخ الاجتماعي السياسي، بحكم صلاته وشخصيته الاجتماعية في بلدة الطرف وفي الأحساء، إضافة إلى أنه كان حريصاً على رواية أبيات الشعر التي تحمل تاريخ المنطقة، وهو إحدى الشخصيات التي أثرت فيّ بشكل بالغ من زاويتين، الأولى صفاته الشخصية، والثانية من خلال تجربته الإنسانية مع شرائح عدة من المجتمع، فحرص - رحمه الله - على أن أعرف هذا التاريخ على جرعات. أما «سعودي كامب» فهي تبدو وكأنها قرية أعدت لعمل فني لقصة بلدة متنوعة ومنسجمة، إذ كان ساكنوها من جميع مناطق المملكة، ومن كل أصولها وأعراقها، من أهل الأحساء والقطيف ونجد والحجاز والجنوب والشمال. كان هناك نوع من الترابط الجميل فيها، وكانت لسكنى موظفي أرامكو الذين لا يملكون منازل في «السينير»، ولموظفي الحكومة. الجانب الآخر، أن بلدة «سعودي كامب» كانت لصيقةً بأرامكو ولها ارتباطها بقصة أرامكو وتطور أرامكو وإنسان أرامكو، وبأكواخها البسيطة التي دخلت الحرب العالمية الثانية، حين قصفت القوات الألمانية الحي لملاصقته منشآت أرامكو لاعتقاد «هتلر» أنه يهدد أميركا بعدم الدخول في الحرب. الدراسة كيف كان تحولك من أرامكو إلى الدراسة الشرعية؟ - بدأ التزامي الديني عام 1982، وكان لزوجتي الدور الأكبر في هذا التوجه كما هو دورها في كل حياتي وفي مساندتي في مسيرتي الفكرية وإدارة بيتنا الصغير، وبحكم قربي من عائلة أخوالي «آل الشيخ مبارك» انخرطت مباشرة في دراسة العلم الشرعي على مذهب الإمام مالك لكونه أيضاً المذهب الفقهي للقبيلة تاريخياً، وكذلك لأني رأيت في فقه مالك تميزاً في شخصيته الفكرية وإجلاله للعلم وحديثه عن سيرة عمر بن عبدالعزيز لما لها من أهمية في العدالة السياسية. وتحولت في مواسم الإجازات إلى الدراسة في المدينة على يد علماء من «شنقيط» منهم: الشيخ محمد أحمد عبدالقادر الشنقيطي في علم الجرح والتعديل، والشيخ أحمد دو حامد، والشيخ محمد زيدان والشيخ محمد مصطفى الشنقيطي، الذي قدم خصيصاً إلينا في الأحساء، كما درست بعض المدونات الفقهية. وكان التركيز في دراسة العلم الشرعي من عام 1983 حتى عام 1988. بماذا تميزت المدارس الشرعية بالآحساء؟ تميزت بأنها استمرت على الطريقة التقليدية مع تطوير بعض جوانبها ولم تقبل أن تكون مجرد تراث، إضافة إلى أنها شكلت هويةً للمنطقة، فالمدارس السنية المالكية والشافعية والحنبلية موجودة في الأحساء منذ مئات السنين ثم جاءت بعدها المدرسة الحنفية مع العثمانيين، وكانت البلاغة والأدب ورقيق الشعر حاضراً فيها فكونت لنا عارضة أدبية ذواقة، فالعلماء الشرعيون كانوا يتحدثون في شعرهم غزلاً وينظمون في الإنسانيات والاجتماعيات والرقائق. هذا كله يضاف إلى التقاطعات مع تاريخ المنطقة الذي أثر في الحياة العلمية الشرعية، فكانت حاجزاً فكرياً لحماية عرب المنطقة، ووجدنا توازناً جميلاً في تقبل الرأي والتعايش مع الآخر على رغم القصور الذي حصل بلا شك في مدرسة التقليد، وهذا التوازن كان حاضراً في تكريس قيم التعايش بين السنة والشيعة التي كانت مؤصلة شرعياً بكثافة. وفي عام 1993 بدأت عندي الاهتمامات الفكرية بشكل مركز، إذ جذبني إليها حديث الثقافة الإسلامي والمشروع الإسلامي، لأكتشف بعد مدة أن هناك خللاً وأن هناك ابهامات وحديث عواطف في الثقافة الإسلامية، بينما المشروع الإسلامي يحتاج إلى مشروع تحليلي وتطبيقي ورؤى أكثر عمقاً. كان الاهتمام باكراً بما تطرحه مجلة المجتمع والمدارس الفكرية الموجودة وأبرزها طرح «الإخوان المسلمين». حيث كانت قراءات مستقلة ومستطلعة، ومنذ ذلك الوقت، رأيت أن الجانب الشرعي ليس كافياً لتشكيل شخصية المسلم المعاصر خصوصاً أن حالات ضمورٍ أصابت جوانب من الفكر الإسلامي واحتبس الفقه في بعض الزوايا، وكان يشغلنا في ذلك الوقت الطموح بأن يشارك الفقه الإسلامي في صناعة الإنسان المعاصر وفي صناعة مستقبل الأمة. الفقهاء والعصر «من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه»، هل عزلت هذه العبارة طالب العلم الشرعي عن واقعه الشامل ومجتمعه لمصلحة التقليد الأعمى؟ - العلم الشرعي أصلٌ في مسار الثقافة الإسلامية، وهي الثقافة التي نقلت العرب في حضارتهم، لكن المشكلة كانت في طريقة النقل. ففي العهود المتقدمة، تجد حال الاجتهاد مع وجود التقليد المنهجي المشروع وتجد عارضة علمية كبيرة مع كثرة الموسوعيين بصورة مبهرة. هذه الحال لم تنتقل بذات الزخم إلى كثير من فقهاء العصور المتأخرة، وعدد من الفقهاء كانوا يعلمون أن للزمن المعاصر دوراً في إعادة تحديد الفقيه لمعالم الوعي، وهذا لا يعني الخروج عن الأصول والخضوع للضغوط، ومن أبرزهم الشيخ مصطفى السباعي في الشام، وكذلك الفقه التجديدي للإمام البنا خصوصاً حين ينظر إليه كإمام تجديدي وليس كقالب دعوي، إضافة إلى إضاءات المدارس الفكرية الأخرى، كمدرسة الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا ومالك بن نبي وآخرين، على رغم ما يراه البعض تجاوزاً وأخطاء، فمن الخطأ أن يُحرم الفكر الإسلامي المعاصر خلاصتهم الصائبة في قضايا عدة لثقافة العقل الإسلامي. ما الذي تعنيه مفردة «الوعي» عندك؟ - تعني الوعي الوطني والوعي الإسلامي، وكلاهما يرفد الآخر. وهناك خلاصات جميلة تحققها حركات الوعي الإسلامي حتى في السعودية، بل وفي السعودية بالذات، فهناك وعي إسلامي تقدمي، يحافظ على أصول الشرع، ويعرف قضايا الاختلاف وقضايا القطعيات الشرعية التي لا يجوز أن تميع أو تنتهك، وهذا الوعي يُعرّف بشكل أكبر أهمية دور الوعي الإسلامي في دعم الحركة الثقافية والتنموية والإصلاحية في الوطن. نبدأ بالوعي الإسلامي، فالإسلام دين له أحكام قطعية، ولكنه أيضاً رسالة بلاغ لها قيم حضارية وفكرية ونظام اقتصادي ونظام أخلاقي، يُقدم ترك الكذب والبهتان والنميمة على إطلاق اللحية وتقصير الثوب، ويقدم السلوك الحسن والأخلاق على ترديد المصطلحات الدينية في غير موضعها والتي قد تسيء إلى الإنسان بغير وجه حق. وتحمل حضارته أيضاً حياة اجتماعية هادئة تملأها الفضيلة والتوازن بين الجنسين، تكفل حقوق الرجل والمرأة في شراكة اجتماعية وتضامن حميمي لو أعملت فلسفة السكن الروحي والشراكة بين الزوجين التي نص عليها القرآن. وهو يملك فقهاً سياسياً للحياة الفاضلة. صحيح أنه لا يوجد قالب محدد طلب منا الإسلام أن نحققه للبناء السياسي، ولكنه طالب بتحقيق العدالة والمساواة والرحمة والحرية والشورى، ولا يتعارض أن يكون لدينا مسؤولية وطنية بالحفاظ على قطرنا وتنميته حقوقياً وإصلاحياً وسياسياً وأن نتقدم علمياً وتربوياً وأن نحافظ على ثوابتنا. أما الوعي الوطني الخاص، فالأصل لدى الإسلامي الواعي الشراكة لا القطيعة، والدفع بالتقدم للإنجاز الوطني وأن نشترك مع من اشترك معنا أو اختلفنا معه، وان نجتهد في تحقيق التنمية بأكبر درجاتها، ولكن من حق صاحب أي فكر أن يرى أن التنمية الإسلامية لا بد أن يعطى لها مسارها المختلف عن المشروع الغربي، وهذا حاصل حتى في بعض ولا بد من تأسيس عقد شراكة مجتمعية يستفيد منه الجميع، نشترك في ما نتفق عليه وجزء مهم مما نتفق عليه، المحافظة على الوحدة الوطنية لهذه الدولة وأن نعزز الجسور حتى بين التيارات الفكرية، والتي لا بد من تكريسها اليوم أكثر من أي زمن آخر وهذه الشراكة لا بد أن تقودها الدولة شراكة وتشجيعاً، وأن ننشغل بقضايا التنمية بدلاً من قضايا الخلاف وذلك بإيجاد مساحة المشتركات. لكن عند أي حرف من حروف الهجاء توقفت العقلية الناقدة عندنا؟ - يقول الفقهاء: «من لا يستشكل لا يعقل». ولكن في السعودية إشكالية اختلاط النقد بالنقض، فعندما أصبح هناك نضوج في التيار الإسلامي، ولست أعفيه من بعض قصور الماضي، لظروف تطور حركة الوعي الزمانية أو ظروف قراءاته، وجدنا أنفسنا في حومة مشتعلة من الصراعات بدلاً من أن تكون هناك رؤية إسلامية معاصرة تلتقي مع النقد الهادف فتخلص لمشروع وطني. وفي علم الاجتماع السياسي، نجد لدينا أن النظام الاجتماعي في السعودية قام على عصبية دينية محددة ينبغي أن تراعى وان تراعي هي كذلك، فتقديري أن النقد الهادف لا بد أن يصلح تأولات وتوهمات واجتهادات بعض أطراف هذه العصبية أو المدارس المحافظة أولاً حتى توسع العصبية وتقوم على قاعدة اشمل تكرس الوحدة الوطنية المؤمنة بمرجعية الشريعة، ولكن المشكلة هنا في كيفية تعامل الناقد الأمين مع المحافظ المتحفز الذي يشعر أن هناك طرفاً آخر يستهدفه تحديداً. أرى أنه يجوز للإنسان أن تكون له رؤاه الخاصة اليسارية أو القومية أو غيرها، ولا بد أن نحترم مساراته الحياتية الخاصة في ظل احترام المرجعية الدستورية للدولة، وهي الشريعة الإسلامية، وليس ذلك بالاجتهادات الفردية أو أن تكون الاجتهادات المتشددة شرطاً نلتزم به، بل المرجعية هي تلك التي تعطينا القطعيات ومساحات التحرك وتحدد ما يجوز وما لا يجوز وما يجوز فيه الاختلاف. علينا أن نحترم الإنسان لشخصه وأفكاره، ولسنا مطالبين بمحاسبة الإنسان على أفكاره وعقله أو حياته الخاصة طالما لم ينتهك النظام المؤصل دستورياً، وفي المقابل، على أصحاب الرؤى التقدمية أن يقدموا مشاريعهم وأفكارهم دون استفزازات للساحة المحافظة، فلا يمكن أن نبقى رهن الآراء المتطرفة هنا وهناك. كم سرعة الوعي المطلوبة للتأقلم مع متغيرات العالم؟ - هناك حركة وعي رائدة في السعودية، وتبقى المسؤولية بصورة كبيرة على الدولة، فلا بد من إعطاء مساحة لجميع الأطياف الفكرية التي تطرح قواعد التحديث ورؤى الإصلاح. والذي نعلمه أن خادم الحرمين الشريفين عنده طموح كبير تحدث عنه مراراً، وقدم نصوصاً ومبادرات تمثل تفهمه لما يحتاجه المجتمع، نرجو أن نجسدها في أنظمة واقعية. نحتاج من مؤسسات الدولة السياسية والاجتماعية أن تنظم هذا الفكر المتطور لكي يتحول إلى وعي وطني يحمي الوحدة والسلم الأهلي والأمن الوطني، ويتحرك بها نحو المشروع التقدمي الإسلامي، وهذا بدوره يحتاج إلى آليات، فلا بد من تدوين الدستور الإسلامي، فهو إيمان المجتمع والشرعية الدستورية للمستقبل الحضاري المتوازن. كان يقال في السابق إن الدستور هو كتاب الله وسنة رسوله فلا يقبل أن يوجد نظام مقنن، ولكن الدولة الآن تجاوزت هذه المرحلة والشاهد على ذلك إقرار خادم الحرمين الشريفين نظام القضاء المقنن. بل إن الكتاب والسنة يدعوان إلى توثيق العقد بين الحاكم والمحكوم، فكل طرفٍ يعرف واجباته ومسؤولياته، وعندها ينتقل هذا الوعي بحركة حرية أكبر في التعبير، في قضايا الإصلاح الوطني وفي الأنظمة الجزائية وحقوق المتهم وفي توزيع الثروات وفي احترام الحياة الحقوقية للإنسان، بدلاً من السجالات الحالية. عند «الناقد» ربيب حركة الوعي الإسلامي، كم كانت نظريات الوعي الإسلامي واقعية؟ وهل كانت واقعية في زمانها فقط أم صالحة لكل زمان ومكان؟ - أساسيات التفكير الإسلامي المعاصر وحركة الوعي الإسلامي التي برزت في الخمسينات والستينات واشتعلت بها المكتبات في السبعينات، والتي دعت إلى فكر النهضة قديماً لا تزال صالحة للزمن المعاصر كأساس يطور ولا يقدس، ولكن عندما برز خطاب الوعظ كبديل لهذا الفكر الإسلامي، حوصر هذا الفكر وشوهت أدوات المشروع الإسلامي، ووجدنا أن هناك قداسة تلقى على أصحاب هذا الخطاب الوعظي وبعضه منحرف، فالوعظ جزء من أساليب الخطاب الإسلامي، ولست أقلل من أهمية الجوانب التربوية، ولكن أن يستوعب الدين والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية في خطاب وعّاظ، قد يسيء بعضهم بزجر الناس في حقوقهم وحرياتهم الشخصية فينفر، فهذه كارثة مع الأسف الشديد. الحركات الإسلامية تُنتقد الحركات الإسلامية على تأصيلها الانتماء للأسماء والرموز على حساب القضايا... هل هو هوى السياسة أم أهواء أخرى؟ - بالفعل كان هناك ضيق وامتناع من النقد الذاتي في أوساط الصف الإسلامي، والذي أجد تفسيره في أن التجارب التي عاشتها بعض الحركات الإسلامية قد استنسخت خطأ إلى مدد زمنية أطول أو إلى مواقع جغرافية أخرى. لكن هناك جدلاً صحياً واسعاً في أوساط التيار الإسلامي العريض من المنتمين لتيارات دعوية محددة أو المستقلين، مع ميلي للاستقلال لأنه يعطي الإنسان المساحة. حركة النقد حالياً قوية داخل الصف الإسلامي، فالمؤمن بالمشروع الإسلامي وبالهوية الإسلامية يحمل نقداً وأسئلة ولا بد لها من إجابات، والفترة الماضية كان لها تأثيرٌ واضح على المكتبة الإسلامية، فهي ضعيفة في تحقيق مصادر توعية وثقافة ومشاريع تتزامن مع الحالة الإنسانية المعاصرة والحالة الوطنية في كل قطر. كيف يلمس الناس نتائج حركات الوعي الإسلامي في حياتهم اليومية؟ - يجب أن نصارح أنفسنا كسعوديين، أننا نعاني من بعض الثقافات والرؤى، ونعاني في كيفية تجسيد أننا أرض الإسلام وأننا مجتمع متدين في أخلاقيات راقية، نحترم بعضنا بعضاً في المناطق الأخرى فلا نتحدث بعنصرية، ولا إقليمية، ونحترم الشريك الوطني ونحترم الإنسان كإنسان، في كيفية عكس التعاملات الإسلامية الواجبة في صدقنا، وهذا برنامج وطني شامل تشترك فيه الدولة وكل الأطياف الفكرية. وعلى مستوى التيار الإسلامي مثلاً بأن يُحدّث الناس بأن من الإسلام احترام الآخر وتقديره دون تنازلات في قضايا المبادئ. للأسف، نحن أُقنعنا أو خُدعنا بأن الحياة الاستهلاكية هي وسيلة التقدم، والصحيح أن تقدمنا هو بأخلاقياتنا، في برنامج ينطلق من الإعلام والتعليم، يقول للإنسان ارفع رأسك أنت سعودي لأنك خلوق ولأنك تحترم الإنسان. المشهد العام مختزل في جدل «بيزنطة»، بينما المشهد الخفي «خلافات شرعية - شرعية»، فإلى أي حدٍ يمكن أن تصمد الديبلوماسية الشرعية في إخفائها؟ - هناك مسؤولية العلماء وهناك مسؤولية المجتمع والدولة، والخلاف بين المدارس الشرعية قديماً كان مقنناً تقنيناً أهلياً، فتجد الفقيه يطرح بإنصاف رؤيته ويطرح الرؤى المخالفة له. ولكن عندنا تبقى الإشكالية في السلوك وفي اتخاذ المواقف، وفي دمج ما هو قطعي وما يجوز فيه الاختلاف في قالب واحد. المهمة الأولى أن تكون هناك زيادة في وعي الناس، وليس بالضرورة أن توجد المذاهب الفقهية الأربعة في كل مناطق المملكة، ولكن عند الاستدلال التاريخي بالخلاف فلا يؤخذ الجانب السلبي فقط، مثلاً أن ننقل للناس ما وقع قديماً في أحد أحياء البصرة أو الكوفة من واقعة تعدي بين الشافعية والحنابلة وتُؤخذ في الاعتبار على حساب العلاقة التاريخية الطويلة، فالمقصود حركة الفقه وعلاقته بمدرسة مقاصد الشريعة وتعدد الاجتهاد وليس إحلال قوالب مكان قوالب أخرى. ومن الناحية الأخرى، لا يجب أن ينتظر المجتمع والدولة حتى يحسم بعض الشرعيين ترددهم، بل تنظم مسألة الحاجة إلى معرفة الموقف الشرعي من خلال المقتدرين المستبصرين، فلا بد أن تحسم قضايا الخلاف ولا تكون مواسم للصراع من هذا الطرف أو ذاك، كقيادة المرأة للسيارة وقضايا الجدل التي تطرح لا بد ان تطرح في سماء فقهي معروف وتقرر، فان كانت هي ليست قطعية الثبوت ولا قطعية الدلالة، بل مرتبطة بالظرف الاجتماعي وبالظروف التنظيمية، فلا يجوز القول بحرمتها، بل لا بد من طرحها في وجود مراجعات شرعية متوازنة ومعتدلة تعرف قياس هذه الجوانب في الفقه وهذه الأمور في ظل مرجعية دستورية تقرر وتقدم للمجتمع القول الفصل. كلٌ يدّعي وصلاً بالإصلاح... وواقع الناس لا يقر لهم بذلك، لمَ يفشل الجميع؟ - الإصلاح كثقافة والإصلاح كنظام هما خطان متوازيان، فلكي يؤمن المواطن بالإصلاح ربما تصل المسألة إلى قضية وجود حتى يستقر المجتمع، ويسهم فيها المجتمع بثقافته وتسهم فيها المؤسسة بقراراتها، والآن اعتقد أن هناك وعياً من المؤسسة الرسمية بأن مفردة الإصلاح تحتاج إلى مشاريع تنفيذية حتى ننتقل بالدولة وبالمجتمع من طور إلى طور آخر وحتى تكرس هذه الثقافة وترتد على نفسية المواطن بأن يشعر بالشراكة وأن هناك قضايا تتحقق على الأرض. وإذا فقد المجتمع الإصلاح فهذا يعني فقدان الثقة في الخروج من أزماته، ومجتمعنا ككل المجتمعات لديه أزمات ثقافية واقتصادية واجتماعية وحقوقية وسياسية، والخطوات التي قام بها خادم الحرمين الشريفين انتقلت بالدولة من طور إلى طور وهناك خطاب وطني جمعي حرص الملك على تدشينه ليلم شمل الوطن، وتبقى المشاريع التنفيذية للإصلاح، فأكبر ما يُسقط الإصلاح ومن قيم ثقافية ضرورية للمجتمع هو أن يفقد تأثيراته التنفيذية. وكل الأمل الآن أن يتحقق وجود مجلس شورى منتخب، وأن يعاد تقويم دقيق للأنظمة الجزائية والإجرائية ومعالجة البيروقراطية، وقضايا الشراكة في صناعة المستقبل الوطني، فنحن الآن في مواجهة هذه المرحلة الملحة للتغيير. هل كان ل«المصلحة الوطنية العليا» وجود في مبادرات «التغيير والإصلاح»؟ - ظروف الخطاب ولغته أحياناً ليست موفقة بالضرورة، وأنا أتحدث عن مستوى اللغة والطرح وليس مستوى المفاهيم والمبادئ، وإيمان الإنسان بالمبادئ فكرياً مشروع له ولا يحاسب عليه، وسعيه وأمله أن يوجد في مجتمع فاضل يتقدم بمراحل عن حالته هو أمر مشروع، ولكن المطالب التنفيذية بحاجة إلى توازن وتقدير ولغة خطاب، والمهم أيضاً ألا تخرج هذه اللغة عن الإطار الاعتباري وألا يفقد الخطاب الإصلاحي من المسؤول التجاوب والتغيير المنشود لذلك الطموح ولو كان بتدرج ولكن تدرج محسوس. وهناك رغبة ارصدها من العديد من المثقفين في التواصل مع القيادة والمستشارين لعرض هذه الأطروحات لدى خادم الحرمين الشريفين، وأنا أتحدث عن جسور مباشرة، وليس عن ملتقيات الحوار الوطني فقط، فهذه الوسائط تخفف من احتقانات التفسير أو من ردات الأفعال، وتعالج قضية الرغبة في توصيل الفكرة وبالتالي يخطو الوطن خطوة متقدمة، يُسمع فيها صوت النخبة المثقفة، ويحرص على الإصلاح الوطني الشامل، في سقف وبرنامج زمني. وما يطرحه الملك في خطاباته يلتقي كثير من المثقفين معه، ولكن الحاجة الآن هي في أن ننتقل بالرغبات الملكية إلى واقع تنفيذي، للخروج من الخطاب المأزوم والخطاب المتوتر والعاطفي. إذا وجدت قوالب مشروعة للتعبير صار بالإمكان الاستماع والتنظيم، مع وجوب ترك مسافة للاحترام بين الحاكم والمحكوم، مع تقديم لغة المصلحة الوطنية العليا. هل ترى لغة مطالبات التغيير والإصلاح تناقش الماضي والحاضر فقط أم تراها تناقش المستقبل؟ - في الخطاب لا بد من قضيتين أساسيتين، إحسان الظن بالإصلاحي وتجنب الاستفزاز للمسؤول باحترام الشخصيات الاعتبارية للدولة، مع التأكيد على أن الصدق في تجسيد الفكرة هو من الإخلاص والوطنية ولذلك يجب أن ننظر للمستقبل ومشاريعه ليجسد الإصلاح على الأرض أكثر. «أحاديث الاستفزاز» إلى أي حد أفادت؟ ومتى انقلبت على ساحرها؟ - لو أن حركة التواصل والتعبير والتطوير كانت أكثر حضوراً وفاعلية فلن نصل إلى نقطة الاستفزاز، لكن ربما للأسف أن غياب هذا الباب ربما هو ما كرس القطيعة بين الأطراف. من مصلحة الدولة والمؤسسة الرسمية أن تبقى الحاضنة والمرجعية التي تملك من الأدوات ما يساعد في بقاء جريان المياه مستمراً، فإذا رفعنا السقف الوطني أخرجنا المجتمع من حال الجدل بين التيارات، وهو جدل وصل إلى مراحل تؤثر في حال الاستقرار والسلم الأهلي.