الضربات الأخيرة التي شنتها المدفعية الكورية الشمالية ضد جزيرة يونبيونغ لم تكن السلوك العدائي الأول بين الكوريتين خلال هذا العام، فقد سبقها تراشق مدفعي في 27 و28 كانون الثاني (يناير) 2010، ثم إغراق السفينة الحربية «شيونان» في البحر الأصفر في أواخر آذار (مارس) وحادث إطلاق النار عبر خط الهدنة في 29 تشرين الثاني (أكتوبر). ارتفاع معدل هذا النمط من السلوكيات خلال عام 2010، يثير بقوة سؤالاً حول أهداف نظام بيونغيانغ من وراء هذه العمليات؟ فالاتجاه التصاعدي لهذه العمليات يعكس وجود أهداف ورسائل محددة يصر النظام على تحقيقها وإيصالها. وتكتسب الحادثة الأخيرة أهمية خاصة في هذا الإطار، ففي الوقت الذي أصرت بيونغيانغ على عدم مسؤوليتها عن حادث إغراق السفينة الكورية، وإعلانها استعدادها إرسال نماذج من طوربيداتها إلى سيول للتحقق من عدم مسؤوليتها عن غرق السفينة، وتصنيف بعض حوادث إطلاق النار على أنها حوادث عرضية، جاء الحادث الأخير ليعبر عن توجه مقصود من جانب نظام بيونغيانغ، إذ أشار بعض المصادر إلى أن الرئيس الكوري كيم جونغ إيل أعطى بنفسه قرار إطلاق النار. هناك أكثر من دافع وراء قيام بيونغيانغ بسلسلة العمليات العسكرية «المحسوبة» الأخيرة، بعضها يتعلق بحسابات داخلية، وبعضها الآخر يتعلق بحسابات إقليمية ودولية. الدافع الأول يتعلق بضرورة الحفاظ على صدقية الردع الكوري الشمالي، فقد تبع صدور تقرير سيول حول قيام بيونغيانغ بإغراق السفينة «شيونان» صدور تهديدات كورية جنوبية وأميركية ضد بيونغيانغ، فضلاً عن سلسلة التدريبات والمناورات العسكرية الكورية - الأميركية التي جرت في البحر الأصفر بالقرب من سواحل كوريا الشمالية، والتي اعتبرتها بيونغيانغ أعمالاً عدائية ضدها، ولم تقف الأمور عند حد المناورات، فقد شهد شهر تشرين الثاني (نوفمبر) توالي التصريحات الأميركية والكورية العدائية ضد بيونغيانغ، كان أبرزها تلك التي صدرت عن الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه أثناء خطاب له في العاشر من تشرين الثاني ( نوفمبر) في إحدى القواعد العسكرية الأميركية في كوريا الجنوبية بالقرب من خط الهدنة بين الكوريتين، وهي تصريحات كانت الأعنف ضد كوريا الشمالية منذ وصول إدارة اوباما إلى البيت الأبيض. وتكتسب أهمية الدافع الخاص بالحفاظ على صدقية الردع الشمالي بالنظر إلى ثلاثة عوامل: الأول يتعلق بطبيعة نظام بيونغيانغ نفسه، كونه نظاماً عسكرياً شمولياً، اعتمد في الحفاظ على بقائه و «شرعيته» الداخلية على مصدر رئيسي هو الإنجاز العسكري (النووي)، وذلك الى جانب الأدوات الشمولية التقليدية (عسكرة المجتمع، ولاء المؤسسة العسكرية، احتكار السلطة وتركيزها في يد حفنة قليلة...الخ)، ولكن تظل شرعية الإنجاز العسكري واحدة من الآليات الرئيسية غير العنيفة أو غير الإكراهية التي يعتمد عليها النظام لتثبيت شرعيته الداخلية. ومن ثم، فإن إثبات صدقية الردع الكورية هي رسالة موجهة ليس فقط إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية (كوريا الجنوبية، اليابان، الولاياتالمتحدة)، ولكن إلى الداخل أيضاً بهدف الحفاظ على شرعية النظام، وشرعية عملية التوريث الجارية. العامل الثاني يتعلق باحتمال تبلور قراءة سلبية لدى نظام بيونغيانغ للتحولات المتوقعة في أجندة الإدارة الأميركية بعد الانسحاب الأميركي المتوقع من أفغانستان، ففي كل مرة تشهد فيها المهمات العسكرية الأميركية الخارجية تحولات كبيرة، تزداد القناعة لدى النظام باحتمال ادراجه كمحطة تالية لما يسمى الحرب على الإرهاب وإعادة بناء الدولة والأنظمة «الفاشلة» بما يدعم الأمن القومي الأميركي وأمن الحلفاء الإقليميين. حدث هذا عندما انتقلت الولاياتالمتحدة من الحرب في أفغانستان بهدف إسقاط نظام «طالبان» والقضاء على «القاعدة»، إلى الحرب على العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين، حيث تطور اعتقاد لدى نظام بيونغيانغ بأنه سيكون المحطة التالية بعد العراق. ويفسر ذلك التزامن النسبي بين بدء الأزمة الأميركية - العراقية، ثم الحرب الأميركية على العراق، من ناحية، واستئناف بيونغيانغ برنامجها النووي العسكري والتخلي عن اتفاق الإطار الموقع في عام 1994 مع الولاياتالمتحدة (كانون الأول ديسمبر 2002)، وصولاً إلى إجراء التجربة النووية الأولى في عام 2006. الأمر نفسه يمكن قوله الآن مع توالي التأكيدات الأميركية على الانسحاب من أفغانستان في منتصف العام المقبل. وبصرف النظر عن إمكانية تحقق هذا الانسحاب وعدمه، إلا أنه ربما دعمت تلك التطورات القناعة من جديد لدى نظام بيونغيانغ بإمكانية استهدافه كمحطة تالية بعد أفغانستان. وفي هذه الحالة قد لا تعدو المناورات والتدريبات العسكرية المتتالية بالقرب من مياهه الإقليمية، من وجهة نظر النظام، سوى جزء من الاستعدادات الفعلية لضربة عسكرية مقبلة. وفي هذه الحالة كان لا بد من قيام بيونغيانغ بعمليات تثبت جديتها في التعامل مع هذا التهديد الجديد. العامل الثالث يتعلق باتفاق وزيري الدفاع الكوري الجنوبي والأميركي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على تأسيس لجنة عسكرية كورية - أميركية مشتركة تعنى بتعزيز الردع لبرنامج بيونغيانغ النووي. ومن المقرر أن تناقش هذه اللجنة في أول اجتماع لها مسألة إعادة نشر الأسلحة النووية التكتيكية الأميركية على الأراضي الكورية (وفقاً لتصريحات وزير الدفاع الكوري الجنوبي لأحد نواب البرلمان في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر). ومن شأن هذا التطور أن يدفع بيونغيانغ إلى التأكيد على جديتها في التعامل مع ما تصفه بالتهديدات لأمنها القومي، بعد أن بدأت مسألة «الردع» تأخذ أبعاداً جديدة، وأصبحت جزءاً من سياسة نوعية ومنهجية لأعدائها التقليديين. الدافع الثاني يتعلق برغبة نظام بيونغيانغ في تحديد توجهات الجولة المقبلة من المحادثات السداسية. وهنا لا يجب فهم ضرب جزيرة يونبيونغ بمعزل عن خطوة سابقة لا تقل أهمية قامت بها بيونغيانغ في 20 تشرين الثاني (قبل أيام قليلة من ضرب يونبيونغ)، تمثلت في الكشف عن إنشاء مصنع جديد لتخصيب اليورانيوم، وهي خطوة على رغم أهميتها ودلالاتها بالنسبة الى مسار البرنامج النووي والقدرات النووية الكورية، إلا أنه لا يمكن إغفال ملاحظتين مهمتين في شأنها: الأولى هي الطريقة الطوعية والسلمية التي تم بها الكشف عن هذا البرنامج، من خلال سماح بيونغيانغ للعالم النووي الأميركي سيغفريد هيكر، الأستاذ في جامعة ستانفورد، بزيارة إحدى محطات مجمع يونغبيون النووي، أطلعته خلالها على أجهزة الطرد المركزي في المحطة. الملاحظة الثانية تأكيد بيونغيانغ على الطابع السلمي لهذا البرنامج المخصص لإنتاج اليورانيوم المخصب لمحطات الطاقة. وهكذا، فإن الطريقة الطوعية السلمية التي تم بها الكشف عن هذا البرنامج، ومن خلال طرف أميركي تحديداً، والتأكيد على طبيعته السلمية، تؤكد عدم ارتباط هذه الخطوة، ثم ضرب جزيرة يونبيونغ، بخطة مسبقة لدى النظام للتصعيد العسكري إلى مستوى الحرب، بقدر ما تهدف إلى تحقيق هدف آخر يمكن تحديده في إجبار الإدارة الأميركية، أولاً، على إعادة النظر في سياستها تجاه نظام بيونغيانغ، والتأثير، ثانياً، في أجندة الجولة المقبلة للمحادثات السداسية. ومن ثم، ليس من المفارقة أن يتزامن الكشف عن مصنع تخصيب اليورانيوم، مع مغادرة المبعوث الأميركي الخاص بكوريا الشمالية، ستفان بوسورث، الولاياتالمتحدة متوجهاً إلى المنطقة لبدء جولة جديدة من البحث في كيفية استئناف المحادثات السداسية، ثم تزامن ضرب جزيرة يونبيونغ مع وجود المبعوث في الصين، وذلك بهدف توصيل رسالة محددة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، مفادها أنه إذا قُدر للمحادثات السداسية أن تبدأ جولة جديدة فيجب أن تنطلق من نقاط محددة، أولاها اعتراف واضح بحق بيونغيانغ في امتلاك برنامج نووي سلمي - وهو حق تم الاعتراف به بالفعل، وفي شكل صريح، في اتفاق أيلول (سبتمبر) 2005. ثانيتها، الاعتراف بحقها أيضاً في امتلاك القدرات الدفاعية التي تضمن لها الدفاع عن نفسها في مواجهة أية سلوكيات أو تهديدات إقليمية ضدها. وثالثتها، الربط بين أي تسوية نهائية وتاريخية لأزمة برنامجها النووي مع عملية تطبيع شاملة لعلاقاتها مع واشنطن وسيول وطوكيو، بما في ذلك توقيع معاهدة سلام رسمية ومكتوبة مع الولاياتالمتحدة وكوريا الجنوبية. ومع أن هذه النقاط الثلاث ليست جديدة في عملية إدارة أزمة البرنامج النووي الكوري، حيث تم التعامل معها في اتفاقيتي أيلول 2005، وشباط (فبراير) 2007، إلا أنه لم يُحرز في شأنها تقدم محدد خلال الفترة من أيلول 2005 حتى آخر جولة من المحادثات السداسية في كانون الأول 2008. ومن ثم، يمكن القول إن بيونغيانغ قد سعت من خلال نشاطاتها الأخيرة إلى خلق مناخ أمني إقليمي ضاغط على جميع الأطراف لإنجاز مثل هذه التسوية وفقاً لأقرب صيغة ممكنة لشروط بيونغيانغ، وأن تأخير هذه التسوية يمكن أن يؤدي إلى جر دول المنطقة إلى حرب مفتوحة لا تتوافق ومصالح جميع القوى الإقليمية. ويرتبط بالنقطة الأخيرة دافع ثالث مهم يتعلق ربما برغبة الرئيس كيم جونغ إيل في إنهاء الأزمات الخارجية القائمة، وتحديداً أزمة البرنامج النووي وأزمة الحدود البحرية مع كوريا الجنوبية، وذلك قبل تولي ابنه كيم جونغ أون السلطة رسمياً، وذلك بالنظر إلى ضعف الخبرة السياسية لأون. هذه الخبرة المحدودة قد تدفع في اتجاه تسوية هذه الأزمات وفق أحد سيناريوين (بحسب درجة هيمنة أون على عملية صنع القرار) سيؤدي أي منهما، في الأغلب، إلى انهيار سريع لنظام الابن. السيناريو الأول هو هيمنة الجيش على القرار وتهميش أون، الأمر الذي قد يؤدي إلى توريط كوريا في حرب إقليمية ستنتهي بالتأكيد بانهيار نظام أون وتسوية هاتين المشكلتين وفقاً لتصورات الولاياتالمتحدة وحلفائها في المنطقة. السيناريو الثاني هو هيمنة اون على صنع القرار، وهو ما يعني احتمال ميله إلى المهادنة، ومن ثم ميله إلى تسوية هذه المشكلات وفقاً لصيغة أقرب للشروط الأميركية منها للشروط الكورية التقليدية، وذلك استناداً الى تحليلات استندت إلى ظروف نشأة أون وخلفيته المهنية وعدم ارتباطه بمرحلة الحرب الكورية والحرب الباردة. في هذه الحالة قد يضطر الجيش للتدخل ضد أون، وهو ما يعني أيضاً انهيار نظامه. حضور هذا الدافع هو الذي يفسر ارتباط الأزمات الأخيرة بمشكلة الحدود البحرية مع الجنوب، ما يعني إصرار الرئيس كيم الأب على تحريك هذا الملف بالتوازي مع مشكلة البرنامج النووي. إن الدوافع السابقة هي التي تفسر بقاء جميع سلوكيات نظام بيونغيانغ – حتى الآن - ضمن الإطار المحسوب بدقة، على نحو قد لا يؤدي بالضرورة إلى وقوع حرب إقليمية مفتوحة في المنطقة. * كاتب مصري