شرف الدين شكري كاتب متعدد الاهتمامات والمشاغل، فهو كتب في القصة القصيرة وأصدر مجموعة بعنوان «سفرة المنتهى» كما كتب ما يشبه النص الشذري بعنوان «الهوامش الكونية، تأملات فلسفية» وأخيراً كتاباً قارب فيه تجربة مالك حداد من خلال أركيلوجية ميشال فوكو عنوانه «الحياة هي دائماً موت أحد ما»، وجاء هذا المشروع بعد ترجمة جديدة قام بها لرواية الشاعر مالك حداد «التلميذ والدرس» وتأتي روايته الجديدة لتؤكد طابع التعدد الذي يميز ريبرتواره النصي متنقلاً بين أكثر من حقل وجنس. روايته الأولى التي عنونها ب «جبل نابليون الحزين» والصادرة عن منشورات فيسيرا في الجزائر (2010) وإن كانت تقترب من الموضوعة المهيمنة على الرواية الجزائرية من خلال التساؤل عن الذي جرى خلال عشرية بأكملها، فهي تختلف بعض الشيء على مستوى الشكل الروائي وإن بقيت تتأرجح بين الخطابية المباشرة والشعرية المتعالية، أي بين التصريح والتبليغ، بين الجمالية والتوثيق، مزاوجة بين فتنة المتخيل وبشاعة الواقع. ومع أن الرواية تقارب زمنياً فترة العنف ثم ما تلى ذلك من مصالحة وفساد، أي من التسعينات من القرن الماضي إلى غاية اليوم، لا تبدو معقدة كثيراً من حيث البناء ولا من حيث ما أراده الكاتب لها أن تكون موقفاً من جنون الدم ووحشية المرحلة السيئة الذكر، فهي تقوم على حكاية بسيطة بحيث نتابع رحلة الراوي جبران مع ابنه أيمن عبر حافلة سفر من مدينة بسكرة الجنوبية إلى مدينة قسنطينة. وعبر الرحلة ينطلق شريط الذكريات، ومع كل محطة تنفجر لوحات الماضي لتغمر ذهن البطل بالكثير من الصور والاستفهامات. إنها قصة حب بين جبران ونزيهة، حب يبدأ من الجامعة واكتشاف القراءة ومتعة المواجهة مع المتعصبين، حب ينشأ في لحظات سقوط الواقع في منحدر التوحش. ثم تتطور العلاقة في ذلك العالم الكابوسي، ويكون الانتقال الى العمل الصحافي حيث يصبح الصحافي هو الشاهد الأقرب الى المأساة، هو العين التي تلتقط الأحداث من جهة وهو الهدف المستلذ للقنص على يد البرابرة الذين لا يريدون للحقيقة أن تظهر. وهنا يتحول الحب العاصف والمجنون من قصة جموع وتمرد شبابي إلى حب ملتبس بلحظته الدموية تلك، مختلط بالجنون والعبث ومهدد بالقتل المعنوي والمادي على السواء. يحكي الراوي جبران فيقول: «بدأنا كما تبدأ القصص العادية البسيطة التي تسكن قاع نهر الحواس الشفافة الذي تبزغ فيه الأشياء بوجه براق واضح... بدأنا بقناعة الفراش التي لا يمكنها أن تكذب... تحدثنا قليلاً فقط عن الخراب الذي ألحقته المرأة بالرجل، والخراب الذي ألحقه الرجل بالمرأة... تحدثنا كمجرمين، شاركا بعمق في نخر طبقة أوزون عاطفية كمجرمين يستعد كلاهما لتنفيذ حكم الإعدام في الآخر... وفي النهاية، اتفقنا على أن يشنق كل مجرم الآخر، بالوقوع في «تراجيديا الحب» من جديد». جاء عنوان الرواية من المحطة الأولى التي تتوقف فيها الحافلة أمام ذلك الجبل الصخري الكبير الذي اضطر نابليون إلى تقسيمه نصفين كي يقتحم الصحراء ويعبر من خلالها إلى عوالم أخرى. جبل نابليون هكذا بقي يسمى، رمز لتقاطع الشمال مع الجنوب ورمز لزحف الصحراء، محطة يتوقف عندها الراوي ليتحدث عن حبه الكبير لنزيهة وكلامهما الساحر عن الصحراء وعما لم يتبق من مشاهد الحضارة المدنية الفرنسية في صحراء في سكرة تلك التي فتنت اندريه جيد وغيره من الفنانين والكتاب العالميين الذين خلدوها في مذكراتهم. يتحدث الراوي بمرارة كئيبة وهو يسرد خيبات مدن كثيرة زحفت عليها الصحراء وقتلتها من الداخل وقد جردتها من المعنى والأمل. إن صوت الراوي جبران لا يفتأ في كل محطة من السيلان بلغته الشعرية المتدفقة وقول الأشياء التي يجب قولها كأنها فرصة لقول كل ما لم يستطع قوله من قبل دفعة واحدة. تنحو الرواية إلى المأسوي وتسكنها روح مأسوية متوترة في مقاربتها للعالم الذي تحكيه، فيها الكثير من الشعر والأحلام وعديد من المفجعات المبكيات. رواية ترنو الى قول الحقيقة، بلا لف ولا دوران، وهي تمسك بخيط الواقع الجزائري المتفجر كأنها شهادة أخرى تقع بين حدّي الموت والحياة. تستمر رحلة الراوي مع ابنه حتى الوصول إلى قسنطينة ومن بعدها مقبرة دفنت فيها تلك المرأة التي عشقها بجنون وقاسمته سنوات الدم والعنف ولم يبق منها إلا ذلك الوهج، وهذا الابن الصغير الذي لم يعرف بعد ما هي الحكاية.