دخلت الجمهورية في حماية الديموقراطية على امتداد أميركا اللاتينية، والشرعية المُنبثقة من الإرادة الشعبية في صناديق الاقتراع الى مزيد رسوخ وثبات. فبعد حقبة الانقلابات والطغم العسكرية، باتت المؤسسات في عهدة مدنيّين يتبوأون السلطة بالاختيار الحر وينعمون بشرعية معترف بها ومحترمة، أيّاً كانت انتماءاتهم وآراؤهم السياسية ومواقفهم المؤيّدة أو المتحفظة إزاء الجار الشمالي العملاق. خطوة تلو الخطوة في سياق التدرّج، تتأهل القاعدة المجتمعية لاستيعاب التحول السلمي في إدارة الشأن العام بممارسة ما يخوِّلها القانون من إبداء الرأي والمشاركة الفاعلة، على رغم بُؤَر التهميش الاقتصادي والعوارض المرضية الموروثة، العائدة لبُنى أصابها التحجّر والإهمال. في المقابل، يمثل تراجع المناهج الشعبوية صريحاً كيفما جال النظر في أحوال جمهوريات نائية، تتدلى مثابة العنقود من المكسيك إلى تشيلي نعرّفها عربياً بالمغتربات، وتنحسر الجماعات المسلحة القائلة بالعنف إلى حدود العصابات بالمعنى الشائن للكلمة، والمعطوف على الاتجار بالمخدرات. ولربما اختلف الأمر بعض الشيء في جزر البحر الكاريبي المحدودة نسبياً، من حيث الثقل البشري، لأسباب الجغرافيا والتاريخ، بيدَ أن التكيّف الديموقراطي عام في قوالبه ومساره، وما مرتقب الانفتاح في كوبا إلاّ أبلغ مثال. خُيِّل للمأزومين في خروجهم على النسق الديموقراطي التصالحي ومعاييره، كما لأصحاب كتب النوستاليجا من أنصار القبضة الحديدية، أن هوغو تشافير سوف يحدث نقلة نوعية تلتف حولها أقطار أميركا اللاتينية وتحذو حذوها في المجالين الداخلي والدولي بسواء. ومن النافل ان الوقائع بدّدت حلم ليلة صيف، ولم يفلح زعم البوليفاري في لمّ شمل نظرائه رؤساء الدول ذوي الأصول اليسارية، ودعوته الى إقتفاء منهجه الريعي وسياساته الصدامية. حتى غدت فنزويلا الراهنة، بقيادة الضابط السابق، مرتعاً للوصوليين المنتفعين والأغنياء الجدد، تكاد حلقة أصدقائها في العالم مقتصرة على أشباه فاقدي السمعة الاعتبارية، موصولين بنادي الاستبداد. العبرة المستقاة من انفضاض معظم اللاتينيين عن حامل راية ثورة بلا قضية، إنما تؤكد طيّ صفحة المشاغبة العاصفة، وسلوك دروب التعاون البنَّاء في نطاق الأسرة الدولية المعاصرة، وتحت عنوان التنوع ومزيّة الاختلاف. لذا، اقترب رجل فنزويلا القوي من الحرب مع كولومبيا الجارة غير آبه بحساب جدي للمخاطر الناجمة عن التدخل في شؤون الدول المستقلة. وكذلك يمكن اعتبار نتائج الانتخابات التمثيلية الأخيرة، بدء فكاك قطاعات جديدة عن مسيرته، وعلامة على تآكل مفاعيل امساكه وحيداً بمقدرات البلاد، تحول دون شططه القيصري وإمعانه في التدابير المقلقة داخلياً كونها تلجم تطور الاقتصاد وتفرِّط بالثروة النفطية نزولاً عند حاجات سياسة العظمة والتبذير لكسب الولاءات. أميركا اللاتينية آخذة بحصاد ايجابيات السلوك الدستوري على صعد مختلفة في ضوء التداول الدوري للسلطة، وخضوع المؤسسة العسكرية للقانون والنظام. يتجلِّى ذلك في معزل عن طبيعة الفائزين بالانتخابات الحرة، يميناً ويساراً، وفي ردود الفعل الجمعية المناوئة لنزعة الانقلاب. اللافت ان تقلبات السياسة أضحت نتيجة تبدل الرأي العام وفق مراد الناخبين، كما هو الجاري حالياً في البرازيل حيث أخضعت روسيف، مرشحة لولا، لامتحان دورة ثانية بعد قصورها عن تحقيق الغالبية من الدورة الأولى، خلافاً لتوقعات الإعلام العربي، البعيد في الدقة والمتابعة في شأن الدول الناشئة وماهية الحراك داخل مجتمعاتها وآفاقه. فقد نال سيرا الديموقراطي الاشتراكي ومارينا سيلفا مرشحة الخضر حوالى أربعاً وخمسين بالمئة من مجموع الأصوات، وليس في الأمر إنقاص من شعبية إينييا سيو دي لولا، ولا انحراف عن ركب الإصلاح، بل مجرد تنافس تحكمه آليات ديموقراطية، يؤول الى اختيار الأفضل في اللحظة وتعزيز مكانة البرازيل في المجتمع الدولي بالتعاون والتعاقد، من منطق السيادة والرشد السياسي. وفي ما يخص الإكوادور، حافظ الرئيس كوريا على منصبه الدستوري إثر محاولة انقلابية فاشلة، بفعل متانة البنيان الديموقراطي، ومسارعة الأسرة الأميركية إلى إدانة وعزلة صانعي الفوضى المخلين بالنظام. وعليه، صارت الأبواب موصدة أمام السحرة ولم يعد في مستطاع المغامرين تكرار تجارب سابقة. ففي معظم الدول الوازنة يُولى الأمر للعقلاء، ويحدّ اعتدال اليسار من هيجاء خطاب شافيز ومعاداته الإمبريالية بأساليب ماضوية حادة، جلّها على سبيل التمثل الشكلي بكوبا الكاستروية إبّان الحرب الباردة التي انتهى زمانها، بينما يتأهَّب راوول كاسترو للانعطاف. لن تهدأ أميركا اللاتينية برمتها عما قريب، لكنها طرحت جانباً سلوكيات حالت دون تمتِّعها بالحرية والرفاه في آن. هكذا يتعثَّر إيفو موراليس في بوليفيا، على رغم صدق النيات، جراء نظرته الجامدة للتحول في بلد شحيح الموارد يعيش في ضائقة على أمل النجاة. وفي أقصى أميركا الوسطى، يتعامل المكسيك مع ظاهرة مافيات المخدّرات بأثمان باهظة وقدر من النجاح. وحيث تصالحت الأرجنتين والأوروغواي مع الديموقراطية، لافظة كل منهما دورة عنف مزمنة، ما زالت كولومبيا تعاني مخلفات الجيش الثوري الذي فقد غالب رصيده جغرافياً وبين المواطنين. غير أن السِّمَة اللاتينية العامة تتمظهر في التوجه التصالحي المسالم، وفي اعتماد مفاهيم دولة القانون بمقادير متعاظمة واعدة في مطلق الحال. ويأتي الخبر السعيد من زوال عقدة النقص تجاه الولاياتالمتحدة تدريجاً، ومقاربة العلاقات معها بثقة القادر والشريك الرافض للتبعية والإملاء. لا يُخفى ما جاء به أوباما في هذا الصدد، ومبلغ تأثير منهجه على تنقية التِعاطي وبناء الثقة مع الجنوب اللاتيني على أساس الاحترام والخصوصيات. الواضح أن ملاقاته من جانب الطرف الآخر لا يعوزها عامل إرادي، إذ أثبتت أميركا اللاتينية علائم نضجها ومقدرتها على إدارة الاختلاف بأسلوب ودراية لم تعهدهما من ذي قبل، مردّهما استقرار السياسة واستواء أهلها تحت مظلة الأصول الدستورية وحماية القانون. فساحات التمرّد في أميركا اللاتينية اليوم خالية من الدبّابات، كما انحسر العنف في المعطى الدولتي النظامي الشامل، الذي استولد اضطرابات متناسلة من رحمه في العواصم، انطفأت شعلتها. انكفأ مربع المتمردين المتبقي إلى جيوب تبحث عن مخارج وتسويات، وحل العديد من ثوار الأمس في المجالس والمناصب العليا مودعين السلاح. في رحاب الصفاء، لم يعد لأميركا اللاتينية من حاجة إلى نواطير بالحرفة والحراب، فالجمهورية كفيلة بحسم الخيارات، والقانون أداة عبور المنافس إلى غاياته وترجمة البرامج الجذرية على محك الواقع والقدرات. عند التمعّن في المشهد اللاتيني، لكم يبدو فضاؤنا في حجر المقيِّدات، هرماً مقلوباً وسط الأهرام. ولكم ينطبق على إقليمنا وصف الاستثناء، استثناء الغَارق في إشكاليات تجترّ ما تخلّت عنه المعمورة، تبنت المراوحة في المكان، تحتضن قديماً فاتت صلاحيته يدّعي الصمود ويسوس الناس بالخداع والإكراه.