الصحافي كائن مزعج. جاسوس يرفع تقاريره الى القراء. والقارئ ديكتاتور متطلب. يريد ان يعرف اكثر. لا تقنعه الرواية الرسمية. يستقبلها بابتسامة المجرب وبالكثير من التشكيك. يلقي على الصحافي مهمة كشف منسوب التلاعب في الرواية. والذهاب الى الكواليس. والتسلل الى المناطق المحظورة. والعودة منها بما يسد الجوع. الجوع الى الحقيقة او الإثارة. الصحافي كائن مزعج. يريد ان يعرف القصة. بخلفياتها وخيوطها وما رافقها من ارتكابات. يريد ان يكون خبره مختلفاً ومميزاً. يريد ارضاء ضميره. وكسب استحسان قرائه. والفوز بإعجاب رئيس التحرير في مطبوعته. ورئيس التحرير هو في الغالب كائن مزعج. جاسوس رفيع يجمع تقارير زملائه ويرفعها الى القراء. يعرف ان الصحيفة تمثل كل يوم امام محكمتهم. وأنهم قساة. يريدون من الصحافيين ان يذهبوا ابعد. وأن يتجاوزوا الخطوط الحمر وبغض النظر عن الأثمان. الصحافي كائن مزعج. حين يحترم الحقيقة. والموضوعية. وأصول المهنة. ويتفادى افخاخ الإغراءات ومحاولات الإسكات الذهبية او الفظة. يصعب ان يكون مثل هذا الصحافي محبوباً او مقدراً. امتناعه عن المشاركة في الترويج او التضليل يرسم حدوداً لعلاقاته. وليس سراً ان المعارضات في العالم الثالث تعتمد احياناً كثيرة أساليب شبيهة بأساليب الحكومات والمجموعات التي تكره الصحافيين وتتفنن في ابتداع وسائل إخراسهم. كنت انوي الكتابة عن باكستان التي تتقدم بخطى ثابتة نحو الهاوية. وأغلب الظن ان احد جنرالاتها ينظر الآن الى ساعته. لكنني غيرت رأيي لدى قراءة ما اعلنه امس المعهد الدولي للصحافة. قال ان 52 صحافياً قتلوا في الشهور الثمانية الماضية من السنة الحالية بسبب ممارستهم مهنتهم وهم أقل بأربعة ممن قتلوا في الفترة نفسها من السنة السابقة التي شهدت مقتل 110 صحافيين. وفي نتائج السنة الحالية تقدمت المكسيك وتبعتها هندوراس ثم باكستان. الحقيقة لا يمكن اعتبار اللوحة نهائية بالنسبة الى السنة فقد تحقق دولة اخرى مفاجأة وتفوز بأوسكار قتل الصحافيين. ضاعف التقرير غضباً ينتابني منذ ايام حين اغتال مسلحون وبمسدسات مزودة بكواتم للصوت الصحافي العراقي رياض السراي في حي المنصور في بغداد. وقالت الأخبار ان السراي قدم عدداً من البرامج الدينية التي تحاول تقريب وجهات النظر بين السنة والشيعة اضافة الى تقديم برامج سياسية. يحزن الصحافي حين يقرأ نبأ مقتل زميله. يتألم لكنه يتقبل حين يعرف ان الصحافي قتل خلال تغطية معارك وأن حظه خانه كما يمكن ان يخون مواطنين آخرين. المسألة تختلف حين يسقط الصحافي برصاص الاغتيال. اعادتني الجريمة الجديدة الى تقرير مؤلم وصارخ. اعادتني الى مذبحة الصحافيين في العراق. فمنذ اسقاط نظام صدام حسين قتل في العراق 248 صحافياً عربياً وأجنبياً بينهم 137 قتلوا بسبب عملهم الصحافي واختطف 64 صحافياً قتل عدد كبير منهم وما زال 14 منهم في عداد المفقودين وفق منظمة «مرصد الحريات الصحافية». في السابق كنا نشكو من وطأة الرقابة. او تدخل وزارة الإعلام. او وطأة مدير المخابرات. اليوم نشكو من مجموعات القتلة. من عصابات تتلطى خلف تسميات ولافتات ولا برنامج لديها غير القتل ولا مهنة تجيدها غير القتل. ان مذبحة الصحافيين في العراق غير مسبوقة. بعض القتلة يتوهم ان افضل طريق لإخفاء الجريمة هو قتل الشاهد اي الصحافي. يخطئ القتلة وإن تمتعوا اليوم بلذة الإفلات من العقاب. ان دم الصحافيين هو من قماشة الدم الذي لا ينام. من قماشة الدم الذي يصرخ. يستطيع القاتل اغتيال صحافي حر. لا يستطيع قاتل اغتيال الحرية مهما تراكم الدم على ضميره وتحت اظافره. ان دم الصحافيين لعنة تطارد اهل الظلم والظلام.