تستخدم الإدارات الأميركية المتعاقبة الكونغرس حجة للتخلص من الحرج حيال حلفائها، عندما يتطلب الأمر الضغط عليهم، خصوصاً إذا «تطاولوا» على إسرائيل. إدارة أوباما لا تشذ عن هذه القاعدة. الرئيس شخصياً حذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن الاستمرار في مواقفه المناهضة لإسرائيل والمتساهلة مع إيران، تقلل فرص أنقرة في الحصول على أسلحة طلبت شراءها حديثاً. وأن هذه المواقف تطرح أسئلة مصيرية في ما يتعلق بالعلاقة الاستراتيجية بين البلدين. ولوح له بفزاعة الكونغرس المستعد دائماً لمعاقبة من يجرؤ على انتقاد الدولة العبرية («فايننشال تايمز»). وأعطى أنقرة «مهلة» لمراجعة سياساتها الإقليمية. بغض النظر عن تقرير الصحيفة اللندنية الرصينة، ونفي البيت الأبيض له، فإن العلاقات بين واشنطنوأنقرة بدأت، منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة، واتخاذه قراراً تاريخياً باستعادة تركيا هويتها الإسلامية، تشهد أزمات متلاحقة. أزمات تجسدت في محطات مهمة، مثل منع الجيش الأميركي من استخدام الأراضي التركية قاعدة لاحتلال العراق. والانفتاح على إيران وسورية المدرجتين على لائحة الإرهاب في واشنطن، والابتعاد عن السياسات الإسرائيلية. والتصويت في مجلس الأمن ضد فرض عقوبات على طهران. هذه المواقف التركية التي تثير حفيظة الولاياتالمتحدة، ليست عابرة. كانت في عهد إدارة صقور جورج بوش وحروبهم، وما زالت مستمرة في عهد الديموقراطيين الممثلين برئيس يرضخ أكثر فأكثر لنفوذ اللوبيات، ولا يختلف عن سلفه إلا في أسلوبه الخطابي. تلويح الإدارة السابقة والحالية بإثارة قضية مجازر الأرمن وتلزيمها للكونغرس للضغط على أنقرة، يؤكد تجذر هذه الأزمات، ويضفي على تقرير الصحيفة اللندنية صدقية. واشنطن غير مرتاحة إلى مراجعة الزعماء الأتراك سياسة بلادهم في الشرق الأوسط، وسعيهم الدؤوب إلى استعادة علاقاتهم التاريخية مع شعوب المنطقة التي حكمها العثمانيون قروناً طويلة. فضلاً عن ذلك، كانت واشنطن وتل أبيب تراهنان على العداء التاريخي بين أنقرةوطهران. عداء ينظر إليه بغباء من زاوية الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة، بدلاً من النظر إليه على أساس أنه خلاف على المصالح بين العثمانيين والدولة الإيرانية. وراهنت الدولتان أيضاًً على اعتدال الإسلام التركي (دعم إسرائيل) لمواجهة إيران. لكن أنقرة خيبت أمل الطرفين بمواقفها فبدأ الضغط عليها. تداركاً للتصعيد الأميركي قررت تركيا إرسال وفد رفيع المستوى إلى واشنطن لطمأنتها إلى أنها ما زالت دولة علمانية حليفة للغرب، وخلافها مع واشنطن لا يعدو كونه خلافاً في أسلوب مقاربة قضايا الشرق الأوسط، وهذا يحصل دائماً بين الحلفاء. هذه اللغة الديبلوماسية لن تستطيع إخفاء حقيقة تغيير تركيا استراتيجيتها. قد تؤجل انفجار الأزمة لكنها لن تلغيها، خصوصاً ان إسرائيل ما زالت مستمرة في عدوانيتها لتأكيد هيمنتها على شرق أوسط استفاقت أنقرة على مصالحها فيه. تبدد صدى خطبة أوباما في إسطنبول (عام 2009). وبدأ الواقع، لا الكلام، يفرض نفسه على الجميع.