«كعب عالي يا أسطى!» صيحة عالية يعرفها كل من تعدى الستين من عمره في مصر. كان محصّل التذاكر في الترام يطلقها كلما نوت سيدة أن تركب أو تترجل. وكان الهدف من الصيحة أن ينتظر السائق كي تتمكن السيدة من النزول أو الطلوع كنوع من الاحترام والتبجيل لها. مرت تلك الأيام وحلت محلها أيام أخرى لم يعد فيها السائق يلتفت كثيراً إلى «نوع» الراكب، أو ارتفاع كعب حذائه. فالاتجاه العام السائد هو للمساواة، ما يعني اختلاط الجنسين من دون تمييز أو تفضيل. هذه المساواة كانت سمة ستينات القرن العشرين وسبعيناته ومطلع ثمانيناته. ثم جاءت التسعينات حاملة معها رياح التغيير، فاعتلى الحجاب رؤوس إناث كثيرات، إذ تمكّنت النزعات المائلة نحو التطرف من ملء قلوبهن وعقولهن. وبدأت هذه النزعة تعبر عن نفسها بالعودة إلى «عصر الحريم»، ولكن بنكهة الألفية الثالثة. عصر الحريم العائد إلى نساء مصر واضح الملامح، ولا يقتصر على طبقة اقتصادية أو فئة اجتماعية، ولكنه يلقي بظلاله على المجتمع المصري كله، الأثرياء ومتوسطي الحال والفقراء. المنتجعات الصيفية الجديدة التي تأسست في السنوات القليلة الماضية باتت تعتمد في جانب كبير من سياستها التسويقية على تخصيص أماكن للنساء. يقول أمجد فتحي، مسؤول تسويق في منتجع ضخم يجري بناؤه والترويج لوحداته السكنية، إن جزءاً من برنامج التسويق قائم على المسابح وقاعات الرياضة الخاصة بالنساء، «وهناك أعداد متزايدة من النساء والفتيات من الطبقات الثرية حالياً بتن يبحثن عن أماكن ترفيه نسائية، وهو ما دفعنا إلى تخصيص مسبح كبير للنساء مع نادي صحة وجيمنازيوم للسيدات فقط. وقد لاحظنا أن مثل هذا التخصيص يلقى إقبالاً كبيراً من خلال منتجع آخر تمتلكه الشركة، وكنا نخصص في المسبح ساعات معينة للنساء. ولذا، اعتمدنا في خططنا التسويقية للمنتجع الجديد تأمين أماكن مخصصة لهن، وهي خطوة متقدمة على تخصيص ساعات محددة لهن». وإذا كانت «تقدمية» تخصيص مسابح للنساء مسألة نسبية، فإن «شبهة» البزنس لا تخضع لأي شكوك. المسألة ببساطة عرض وطلب. فمع تنامي التيار الديني واحتدامه حتى الهوس، تنبه كثيرون من رجال الأعمال إلى فرص الربح. ويبدو ذلك واضحاً من خلال مشاريع ربحية مئة في المئة، لا تشوبها أي ملامح للعمل الخيري، ومنها على سبيل المثال مقاهٍ للنساء، وكوافير (مزيّن) للمحجبات فقط، ومدارس تعليم رقص وأروبيكس للنساء فقط، وتعليم قيادة السيارات للنساء على أيدي مدرّبات، وحارسات للنساء وغيرها من المجالات الربحية. ولا يقف عصر الحريم عند حدود «البزنس» فقط. فتجربة «عربة السيدات» في قطارات مترو الأنفاق المطبّقة في مصر، منذ سنوات، أثبتت نجاحاً كبيراً، ما دعا إلى التفكير في تطبيقها على بعض خطوط القطارات كذلك. شيوع ظاهرة عصر الحريم، سواء من وجهة نظر دينية أم اجتماعية، أدى كذلك إلى ضرورة مواكبة هذا الاتجاه. ويبدو هذا واضحاً من خلال الشرطة النسائية، وأفراد الأمن من النساء في الأماكن الحيوية مثل مترو الأنفاق. كما أدى هذا الاتجاه إلى توجّه شركات أمن خاصة إلى تدريب فتيات ونساء وتعيينهن لتلبية حاجات العملاء. يقول أحمد صابر الذي يدير شركة أمن خاصة: «نتلقى طلبات كثيرة من شركات ومراكز تجارية وجامعات خاصة ومؤسسات مختلفة، لتزويدها بأفراد أمن من النساء، لا سيما بعد ازدياد عدد المنتقّبات، وما عنى ذلك من الاضطرار أحياناً إلى لاستعانة بأفراد أمن من النساء ليتأكدن من هويتهن». ويلاقي هذا التخصيص النسائي ترحيباً خاصاً من نساء ورجال. فالنساء، حتى من غير المحجبات أو المنتقبات، يجدن قدراً أكبر من الراحة في ارتياد الأماكن التي لا ترتادها سوى النساء، لا سيما في ظل انتشار ظاهرة التحرش. وتقول نهى (23 سنة): «على رغم أنني غير محجبة، أفضل استخدام الخدمات المخصصة للنساء فقط، لأنني أشعر بمقدار أكبر من الراحة فيها. فللأسف أنه رغم الاتجاه الظاهر نحو التحفظ والتدين، تكاد أعين الرجال، حتى بالغي التحفظ منهم، تخترق ملابس النساء السافرات والمنتقبات». وتتعالى أصوات ذكورية مؤيدة لتخصيص أماكن للنساء، سواء بوازع ديني أو ذكوري. ويقول سليمان (موظف) إن النساء يزاحمن الرجال في كل مكان: «في المواصلات والعمل وحتى في الطوابير، وعلى رغم أنهن يطالبن بالمساواة ونيل الحقوق، ينظرن إليك شذراً عندما تكون جالساً في باص مزدحم، ولم تترك مكانك لهن. شيء غريب فعلاً». ولا تبقى إلا أصوات قليلة تعبر عن شجبها أحياناً لما تسميه «ردة نسوية». فهي تفسر هذا التخصيص في ضوء نظرية الرجعية والتخلف، ولكنها باتت أصوات ضعيفة لا تلقى تأييداً كبيراً في زمن وجدت النساء فيه أنفسهن واقعات بين شقي رحا، التطرف والفهم الخاطئ للدين من جهة، واحتفاظ الرجال لأنفسهم بحق التفسير الديني وبزنس التخصيص... و»البصبصة»!.