الكثير من الأعمال الفنية، بخاصة المسرحية، تمّحى من الذاكرة بعد عرضها بزمن، لكن هناك حالات يكون فيها العمل مؤثراً، لسبب ذاتي أو موضوعي، فيظل حياً. المركز الثقافي البريطاني في عمّان، قدم نهاية أيار (مايو) 2010، عملاً ينتمي إلى هذا النوع، حمل عنوان «خطوة صغيرة واحدة» من تأليف ديفد هاستينغ، وإخراج توبي هالكس، على خشبة مسرح البلد، بعد أن عُرض في جامعة اليرموك بإربد، قبل ذلك بأيام. هدفت المسرحية، التي تحمل الرقم 61 في جولة عروضها في أنحاء العالم، إلى إثارة الخيال الخلاق لدى المتلقي، ورسم البسمة على الشفاه، عبر كوميديا الموقف، لكن الرسالة الأساس التي ألحّت عليها البنى المضمرة، وتعني البشريةَ جمعاء، هي التنبيه إلى أن البشرية في حال مضت في صيرورتها الحالية، فلا بد من البحث مستقبلاً عن مكان آخر للعيش فيه، وتقترح لوحاتُ المسرحية ومشاهدها البحث في الفضاء الخارجي لهذه الغاية. ومردّ ذلك هو التكاثر المتزايد، وتدمير البيئة الذي تتسارع وتيرته، والذي بدأت علائمه تظهر سريعاً بخاصة في ظاهرة الاحتباس الحراري، والمتغيرات المناخية الكبرى التي يشهدها الكوكب، فضلاً عن استنفاد الموارد الطبيعية شيئاً فشيئاً. تعدّ المسرحية على المستوى التقني، ناجحة، بفعل اختيار نص مفهوم لأيٍّ كان، حيث أنها تتحدث عن الجهود التي بُذلت ليصل أول إنسان إلى سطح القمر، ودلالات هذه الخطوة الأولى نحو اكتشاف الفضاء الخارجي، ومن جهة أخرى، يعتمد العرض على منهج «المسرح الفقير»، لكن الغني والثري في دلالاته السمعية والمرئية، بفعل بساطة العناصر المستخدمة في إنشاء الفضاءات الدلالية. ذلك أن العناصر السينوغرافية تشتمل على أدوات يمكن توفيرها بكلفة متدنية جداً، كأدوات المطبخ، وعلب كرتونية فارغة، وقطع خردة مختلفة، وبالتالي لا تحتاج هذه الفرقة المكونة من المخرج توبي هالكس، والممثلَين روبنز هيمنغز وألوليفر ميلينغهام، إلى نقل ديكورات معينة بعينها، خلال التجوال بين الدول المختلفة. اتكأت الرؤية الإخراجية أساساً على تقنية التحفيز القصوى لطاقة الممثل الداخلية والخارجية، وتوليد علامات دلالية يفهمها المتلقي بوضوح تام، دونما علاقة بحالتها الأيقونية الأولى، فضلاً عن اشتغالها على توفير عنصر الشحن الدرامي، والتصميم الناجح لبناء الشخوص المختلفة، التي اندفعت بحيوية تعبيرية على خشبة المسرح، أثناء نسج حكاية المسرحية. كما نجحت الرؤية الإخراجية في إشاعة أجواء كوميدية طيلة العرض، بفعل السخرية من العلاقات البيروقراطية السائدة في مجتمع المنشغلين في عملية التحضير للسفر إلى الفضاء الخارجي. أما على المستوى البصري، وفي السياق الإيهامي المحرِّض للخيال، فقد جاءت الكوميديا من الدلالات التوليدية بفعل أداء الأغراض المستعملة، مثل طرح مجسد كبسولات الفضاء «أبولو» الأميركية، و«سبوتنك» السوفياتية، عبر صناديق الكرتون الفارغة، ومصابيح الإضاءة، ودلاء الماء. وقد جرى نقاش بعد العرض، بين فريق المسرحية والمشاهدين، تناول أهداف العرض، والانحياز السياسي الذي يكشف عنه، عبر تناول التنافس الحاد الذي بدأ العام 1957، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية للوصول إلى سطح القمر أولاً. المركز الثقافي البريطاني، سيعرض المسرحية في حزيران (يونيو) الجاري في سورية والجزائر، بعد عرضها في بريطانيا ولبنان وتونس والمغرب ومدن فلسطينية ومصر.