صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة جديدة من «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» للشاعر والفيلسوف الألماني جوهان ولفغانغ غوته، ونقلها إلى العربية الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي بحث في جذور اهتمام غوته بالشرق وحكمته وفنونه التي ترجع إلى عهد الشباب، فقد قرأ ترجمة الكتاب المقدس وهو طفل ولكنه لم يقتنع بالترجمة، وإنما أراد أن يقرأه في نصه الأصلي حتى يستطيع أن يتذوق جماله تذوقاً كاملاً. فدرس اللغة العبرية على يد الأستاذ ألبرشت بين عامي 1762 و 1765، ولما يتجاوز الثالثة عشرة بعد. وترجم من التوراة كتاب نشيد الأناشيد. ثم عكف على قراءة القرآن الكريم في ترجمة ميجر عام 1781، وفي السنة التالية قرأه ثانية في ترجمته اللاتينية التي قام بها ماراتشي، وأعجب به كل الإعجاب، فترجم منه بضع آيات. من هنا بدأت عنايته بالأدب العربي، فقرأ المعلقات في ترجمة جونز اللاتينية، وترجم قطعة من المعلقة الأولى. وبعد أن عاد من رحلته إلى إيطاليا عام 1791، أشار عليه صديقه هردر بالعناية بالآداب الهندية والفارسية. ومنذ ذلك الحين لا يكاد يخرج إلى اللغات الأوروبية كتاب واحد في هذين الأدبين، أو أثر من آثارهما إلا والتهمه التهاماً. فقرأ قصة «المجنون وليلى» التي نظمها الشاعر الفارسي المشهور نظمي وترجمها هارتمن إلى الألمانية. وفي عام 1814 اتخذت صلة غوته بالشرق صبغة جديدة، واتجهت اتجاهاً آخر، فلم يعد إعجابه هذا الإعجاب السلبي الخالص، وتلك المتعة الوديعة الهادئة، وإنما انقلبت إلى امتزاج قوي بين روح وروح، ودم ودم، فروح الشرق نفذت إلى أعماق غوته. واتحدت بكل عنصر من عناصره، فتفاعلت وإياه تفاعلاً قوياً، تمخض عنه هذا الأثر الفني الرائع الذي نحن بصدده، ألا وهو «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». وكان غوته يحلم بأن يكون للإنسانية أدب واحد مشترك، تمده روافد الأمم جميعاً قديمها وحديثها، وحاول أن يجمع في نفسه بين آداب الأمم جميعها، فبدأ بالأمم الأوروبية وتراث كتابها ومفكريها، ولم يبق أمامه سوى أن يجمع بين الكتلتين الضخمتين اللتين يتكون منهما العالم، وهما الشرق والغرب، فيصهرهما جميعاً في بوتقة واحدة، هي نفسه الفسيحة القابلة للتأثر بكل تيار، والفاتحة أبوابها لكل من شاء الدخول وعنوان الديوان يعبر عن هذا كله. فليس هذا الديوان شرقياً خالصاً ولا غربياً، إنما هو مزيج طريف جمع بين الاثنين. ويكشف بدوي أن غوته كان يشعر بضيق شديد من أساليب الغربيين في التعبير وأوضاعهم التي اصطلحوا عليها، وكان يشعر بأنه في حاجة إلى اتخاذ أسلوب جديد للتعبير، فيه حرية وانطلاق، وأسلوب الشرق في الشعر يمتاز بهذه الخصائص، فقد وجد في الشرق ما يحقق أمله من ناحية الشكل والصورة، بعد أن وجد فيه من قبل ما ينشده من ناحية الموضوع المادة. ومن العوامل التي دفعت غوته إلى الهجرة الروحية إلى الشرق اطلاعه على ديوان شمس الدين حافظ الشيرازي، الشاعر الفارسي المشهور. فقد تغنى حافظ بالليل والورود والحب، في هدوء ومرح، بينما كانت الامبراطوريات من حوله تعج بالاضطرابات، والحكام الطغاة يضجون ويصرخون، في وسط هذا الاضطراب الذي يسود أوروبا عقب هزيمة نابليون رمزه المفضل الذي كان بمثابة الضوء الساطع الذي بهر أوروبا، بل العالم بأسره، لكنه سقط من علٍ، بعد أن دوَّخ ما دوخ من شعوب، فاستيقظت الأمم التي أذلَّها من هذا الحلم المروع، وكانت ألمانيا أولى هذه الأمم التي هزمته للمرة الأولى في موقعة ليبتسغ في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1813، لكن هزيمته النهائية جاءت في موقعة واترلو، وكانت ضربة قاسية لإعجاب غوته بنابليون وظنونه فيه. لكن غوته أراد أن يتحدث بحديث الحب، وأن يتغنى وهو هادئ مسرور. وظهر الديوان للمرة الأولى عام 1819. وينقسم إلى قسمين كبيرين، الأول، وهو المهم، شعر. والثاني نثر، وهو عبارة عن التعليقات التي وضعها غوته لكي يُفهم الديوان، وهي خاصة بتاريخ الآداب العربية والفارسية والعبرانية. والقسم الأول يتكون من اثني عشر كتاباً هي: كتاب المُغَني، وكتاب حافظ، وكتاب العشق، وكتاب التفكير، وكتاب سوء المزاج، وكتاب الحكمة، وكتاب تيمور، وكتاب زليخا، وكتاب الساقي، وكتاب الأمثال، وكتاب البارسي، وأخيراً كتاب الخُلد. ووضع غوته أسماء هذه الكتب باللغة الفارسية وتحتها ترجمتها الألمانية. واللحن السائد في الديوان هو التحول، ولكن ليس معنى هذا التحول أن يتحول غوته من شخص إلى شخص آخر فحسب، وإنما هو بشخصيته ظل ثابتاً طوال هذا التغيير. فهو يتحول تارة إلى حاتم، وهو أظهر شخصيات الديوان، ويظل مع ذلك غوته نفسه، ويتصل بهذا التحول عودة الشباب، فغوته الشيخ يتحول بواسطة الساقي إلى شاب. والديوان يشيد بطبيعة الإنسان وقواها، ويحمل طابع التفاؤل والإقبال على الحياة، ويدعو إلى المؤاخاة بين الأمم والشعوب، ثم هو مملوء بنظرة صوفية عميقة في الحياة بكل مظاهرها.