حسرات ودموع ذرفتها عائلة الفتاة زهراء على مدار 19 عاماً، وهي ترى ابنتها البكر تقضي على «السرير الأبيض» أكثر مما تقضي في غرفتها الصغيرة، وأكثر مما تقضيه بكثير على مقعدها الخشبي في المدرسة. أيام عصيبة مرت على العائلة، خصوصاً حين يشتد البرد القارس، ويكثر أنينها وبكاؤها، ولا ينقطعان إلا بجرعات من المحاليل الطبية والحقن المُهدئة، ما يستدعي غالباً نقلها مباشرة إلى أحد المستشفيات أو المستوصفات القريبة من المنزل. والدها كان يتقطع ألماً عندما يشاهد جسمها النحيل المنكمش أمامه، وعينيها البريئتين وقد تحولتا إلى اللون الأصفر. هكذا عاشت «زهراء» طوال 19 عاماً، حتى تخرجت من مدرستها الثانوية بصعوبة. وتقدم لخطبتها أحد الشبان، فوافق والدها عليه، بيد أنه أثناء تجهيزها لحفلة الزفاف، وقبل أسبوع واحد فقط من عرسها توفيت زهراء، وبدل أن تزف بفستانها الأبيض إلى بيت زوجها، شيعت بأكفان بيضاء إلى القبر. رحلت زهراء عن أسرتها البسيطة، بعد معاناة طويلة من «فقر الدم المنجلي الحاد»، أو ما يعرف ب«السكنسل»، في وقت لم يوجد فيه اهتمام واضح ب«فحص ما قبل الزواج» خلال تلك الفترة. يقول والد زهراء (55 عاماً): «على رغم أن حياتي الزوجية كانت جميلة بتفاصيلها المختلفة، إلا أن زهراء خدشت ذلك الجمال. وتمنيت أنني لم أوفق لهذا الزواج، لأنني تزوجت والدتها وأنا أعلم بأنها مصابة مثلي بفقر الدم المنجلي. ولكن لم أكن أتصور أن أتجرع مرارة العيش وأنا أرى أبنائي يتقطعون ألماً أمامي». ويضيف: «رحلت زهراء عني، على رغم أنني حاولت علاجها في معظم المستشفيات المحلية. إلا أنني لم أنجح في ذلك، حتى اغتال هذا المرض ابنتي، وغيبها عن عيني تماماً. وأنا نادم على هذه الزيجة، على رغم أن زوجتي وأنا كذلك، لا نتحمل المسؤولية، بسبب غياب الإرشاد والتوجيه حول خطورة هذا المرض في ذلك الوقت». ويتفق عدد من المصابين بأمراض الدم الوراثية، مع والد زهراء، حول أهمية الفحص قبل الزواج. فيما كانوا يتمنون لو كانت هناك ثقافة وتوجيه حول هذا الأمر، قبل إقرار الفحص الإلزامي، الذي سيسهم في تقليص عدد المصابين في المستقبل. ولم يدرك علي محمد (37 عاماً) خطورة ما ارتكبه إلا بعد زواجه الذي تم قبل البدء في تطبيق هذا الفحص بفترة بسيطة فقط. «لكنني كنت أعرف حجم الأخطار التي سأجنيها من هذه الزيجة، كون زوجتي تعاني أيضاً من فقر دم حاد». ويضيف: «المصيبة أننا جميعاً نعرف حجم المعاناة التي سنتسبب فيها، إلا أنني رفضت كل النصائح بإيقاف هذه الخطوة، وفضلت الاقتران بزوجتي، بناءً على المتعارف لدى أسرتي، بأهمية الارتباط بإحدى قريباتي، وإلا ستحل اللعنة عليّ وعلى زوجتي لو كانت من خارج محيط الأسرة». لدى علي، الآن ابنان، أحدهما حامل للصفة الوراثية للمرض، والآخر مصاب. ويقول: «أعاني عندما أراه يتألم من شدة المرض، ما يستدعي نقله مباشرة إلى المستشفى، لنعيش هناك الآلام سوياً». في المقابل، لا يزال الجهل بضرورة الالتزام بفحص الزواج وآثار إهمال الأخذ بالتحذيرات، فعبد رب الرسول سالم (65 عاماً) لديه أبناء بعضهم «مُصاب» وآخرون يتمتعون بالصحة والعافية. ويرفض «تماماً» فكرة الربط بين الفحص والخطوبة. ويقول: «اعتقد أن الأمراض تأتي بسبب شيء آخر، خلاف الزواج، فنحن عشنا في الأزمنة الماضية، ورأينا ذوينا يتزوجون من بعضهم بعضاً، من دون أن تكون هناك أمراض بهذا الشكل. وربما تكون الأمراض من تقلبات الأجواء، أو ضعف البنية الجسمية، كحال أي مرض آخر، إلا أنني لا أعتقد أن الأمراض بسبب الزواج والارتباط، على رغم أن أبنائي جميعاً يختلفون معي في ذلك». لكن علي الصادق يؤكد أهمية الفحص قبل الزواج «من أجل بناء مجتمع سليم وخال من الأمراض الوراثية»، مشيراً إلى «الندم الذي يراودني بين وقت وآخر، خصوصاً عندما أرى حجم الألم الذي يعاني منه أبنائي، وعدم مقدرتي على علاجهم بصورة نهائية».