الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية الشاملة التي بدأت من أزمة الرهن العقاري في الولاياتالمتحدة وشملت دولاً كثيرة، في مقدمها الدول الكبرى الأساسية، وانعكست في شكل أضرار بالغة أو إفلاسات في العديد من المؤسسات المالية والمصرفية والإنتاجية، وصرف ملايين الموظفين والعمال من الخدمة، وأدت الى انكماش وركود اقتصاديين. وقد حاولت الدول الأساسية الكبرى التصدي لها منفردة أو مجتمعة من طريق تدخل حكوماتها ولمساعدة المؤسسات المتضررة على الخروج منها. ويعتبر لبنان من البلدان القليلة التي لم تعصف بها الأزمة، على رغم بعض التأثيرات السلبية عليه مباشرة أو غير مباشرة. فقد برهن عام 2008 بنتائجه الاقتصادية على ان لبنان حقق إنجازات كثيرة لم يعهدها منذ سنوات، حيث ارتفع معدل النمو الاقتصادي من 4 الى 7 في المئة في عام 2008، وساهمت فيه مختلف القطاعات الاقتصادية. ويعتبر النظام المصرفي اللبناني العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، وهو يقوم بتمويل القطاعين العام والخاص، ويساعد الدولة على سد العجز في موازنتها وتسديد ديونها للدول المانحة في مؤتمر باريس -3 من طريق الاكتتاب بسندات الخزينة وسندات «اليوروبوند» التي بلغت قيمتها مؤخراً 2.6 بليوني دولار، مع بروز طلب خارجي ايضاً عليها. وحقق القطاع المصرفي نمواً في موجوداته بلغت نسبته 15 في المئة، حيث وصلت الى 94.7 بليون دولار أي ما يساوي 327 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت قيمة الودائع 78.16 بليون دولار منها 14.7 في المئة فقط ودائع لغير المقيمين. وبفضل هذه النسبة المتدنية لم يتعرض القطاع المصرفي اللبناني لسحوبات كبيرة لتغطية مراكز خارجية جراء الأزمة. وصمد القطاع المصرفي اللبناني في وجه الأزمة نظراً إلى متانته وقوته ولاعتماده على قواعد أساسية سليمة وضعتها السياسة النقدية التي يشرف عليها مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وأهمها: 1- العمل على منع تعثر أو إفلاس اي مصرف من المصارف، أو تعرض اي سعودي أو مصرف مراسل لأي خسائر. 2- منح السوق حرية تحديد معدلات الفائدة والامتناع عن خفضها لمصلحة اي جهة كانت. وقد ساعد ذلك على منع المضاربات، لا سيما في مجالي العقارات والبورصة. 3- الإبقاء على سيولة وافرة في القطاع المصرفي والحد من الاستثمار في الأدوات المالية المركبة ومنع استخدامه في القروض العقارية ذات المخاطر العالية. 4- منع المصارف من إقراض أكثر من 70 في المئة من ودائعها، وتطبيق معايير اتفاق بازل 2 المتعلقة بالاحتفاظ بنسبة كافية من الأموال الخاصة والرسملة وغيرها. 5- ايجاد تسوية للديون المشكوك في تحصيلها بإعطاء تسهيلات للمقترضين مع الحفاظ على حقوق المصارف. وأدى ذلك الى تغطية 10 في المئة من محفظة قروض المصارف وحال دون تراجع في موازنتها. وبلغت قيمة هذه الديون حتى آخر كانون الثاني (يناير) 2009 في حدود 3.6 بليون دولار. 6- حصر التسليف العقاري بنسبة 60 في المئة من قيمة الصفقة العقارية و50 في المئة من قيمة الأسهم. علماً ان القروض الى المقاولين والبناء بلغت 15 في المئة من مجمل القروض للقطاع الخاص. 7- استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار ما يوفر الثقة بالعملة الوطنية ويحد من ارتفاع معدل نمو التضخم الذي بلغ 10.7 في المئة في نهاية عام 2008. وهذه الثقة اللبنانية تزداد حالياً جراء الأزمة العالمية وتأثيرها السلبي على عملات اساسية كالدولار واليورو. وبسبب الاحتياطيات الضخمة التي يملكها مصرف لبنان والبالغة حتى مطلع آذار (مارس) 2009 في حدود 21 بليون دولار يصبح مصرف لبنان قادراً براحة بالغة على دعم الاستقرار النقدي ومساعدة المصارف وغيرها من المؤسسات عند الضرورة، وأدى ذلك الى تحويل 8 بلايين دولار الى الليرة اللبنانية بواسطة المودعين. ما جعل نسبة دولرة الودائع تنخفض الى 69.9 في المئة. مع ذلك، فإن بعض المصارف اللبنانية فقد مبلغاً بقيمة 200 مليون دولار تقريباً نتيجة لاستثمار بليوني دولار في اصول اميركية وأوروبية تعرضت لخسائر جراء الأزمة العالمية. ويشكل هذا المبلغ 19.5 في المئة من أرباح القطاع المصرفي اللبناني عام 2008. الى ذلك فإن بنية التسليفات والأساليب المستخدمة لإنجازها تعاني ثغرات معينة. علماً ان المصارف اللبنانية في ظل الأزمة اصبحت اكثر تشدداً وصرامة في مجال التسليف، وتحديداً التسليف العقاري. ومن المحتمل انخفاض نمو القطاع المصرفي وربحيته جراء تباطؤ الاقتصادات العربية، وتقلص نشاط المغتربين اللبنانيين ومداخيلهم الضرورية للنشاط الاقتصادي في لبنان. لذلك فإن حركة الودائع قد تتراجع من 15 في المئة الى 10 في المئة عام 2009. وتعتبر بورصة بيروت ضعيفة نسبياً، وعلى رغم ذلك فإن أسعار اسهمها من بداية عام 2008 لم تنخفض أكثر من 26 في المئة، بينما بلغت نسبة الانخفاض 55 في المئة في الأسهم العربية. مع ذلك فقد خسرت من رسملتها مبلغاً بقيمة 4 بلايين دولار. وعلى رغم انهيار عدد من أسواق العقارات العربية، إلا ان القطاع العقاري اللبناني شهد انتعاشاً ونمواً واضحين في العام 2008. فازداد حجم معاملات البيع العقارية بنسبة 21.8 في المئة والقيمة الإجمالية للصفقات العقارية بنسبة 47.6 في المئة. وبعد الفورة العقارية التي ظهرت في ربيع وصيف 2008 ورافقها ارتفاع كبير في الأسعار، عادت هذه الأسعار لتستقر وسيطر على السوق العقاري الحذر والترقب لما ستسفر عنه الأزمة العالمية، وتبلغ نسبة حصة غير اللبنانيين من السوق العقاري 10 في المئة تقريباً ما حمى القطاع العقاري من احتمال بيع عقارات هؤلاء بأسعار متدنية تؤدي الى انخفاض الأسعار بصورة عامة في السوق والتسبب بأزمة عقارية جدية. ومثل هذه العمليات كان في الإمكان ان تحصل لتغطية مراكز خارجية تضررت جراء الأزمة العالمية. وحافظت الأسعار على مستواها حتى الآن على رغم انخفاض اسعار مواد البناء وسعر صرف اليورو. ويعود ذلك الى ان مقابل هذا الانخفاض ارتفعت تكاليف اليد العاملة فبقيت الأسعار على حالها. إضافة الى ان الشقق بيعت على الخريطة عندما كانت اسعار مواد البناء ارتفعت. وعندما ينتهي المطورون العقاريون من بيع شققهم قد تنخفض أسعار الشقق بنسبة تراوح بين 10 و20 في المئة عام 2009، مع ان بعضهم يعتقد ان الأسعار ستعود الى الارتفاع مع مطلع الصيف إذا لم يرافق الانتخابات أجواء أمنية وسياسية غير ملائمة. ومن حسنات السوق العقارية في لبنان ان الشقق السكنية والعقارات التي تطلب لبناء مسكن عليها تستخدم في معظمها لتلبية حاجات شخصية. بينما الطلب العقاري من اجل المضاربة محدود جداً. وهذا من العوامل التي تساعد على استقرار السوق العقاري في لبنان. وحتى نهاية 2010 قد تراوح ارتفاعات الأسعار بين 50 و100 في المئة، وقد تصل في بعض المناطق الى عشرة أضعاف ثمنها أو أكبر من ذلك في المناطق المميزة. وقد يراوح سعر المتر المربع الواحد بين 5 و10 آلاف دولار على أقل تقدير. ومن أهم اسباب ارتفاع اسعار العقارات بصورة عامة في لبنان: ضيق مساحته الجغرافية، ازدياد الطلب مع محدودية العرض، تدني مستوى الأسعار في لبنان مقارنة بالدول المجاورة، تحويلات المغتربين اللبنانيين والمتمولين العرب للاستثمار في القطاع العقاري والسكني، اعتبار لبنان ملاذاً آمناً للاستثمارات وخصوصاً العقارية في ظل الأزمة العالمية وتفاقهما، موقع لبنان الجغرافي ومناخه المميزان، نظامه الاقتصادي الليبرالي وانفتاحه على العالم وتوافر مختلف انواع الخدمات الضرورية فيه وغيرها. والقطاع السياحي الذي شهد نمواً بنسبة 31 في المئة في عام 2008 وانتعش كثيراً، وأعطت دفعاً قوياً للقطاعات الأخرى التجارية والعقارية والخدماتية وغيرها، ساهم مع هذه القطاعات برفع معدل النمو عام 2008، وإذا بقيت الأوضاع السياسية والأمنية مستقرة في الانتخابات النيابية مطلع الصيف، فإنه لن يتأثر بالأزمة العالمية وسيستمر بالنمو على رغم تقلص مداخيل المغتربين اللبنانيين والمواطنين العرب. فلبنان يمتلك جاذبية سياحية واضحة، مع ان بعض البلدان العربية كمصر ودبي وغيرهما تنافسه في هذا المجال. ويعتبر قطاع التأمين في لبنان من القطاعات الناجحة، وهو يتميز بمرونة كافية واستطاع ان يصمد في اصعب الظروف التي مر بها لبنان. وقد حققت شركاته زيادات ملموسة في حجم محافظها التأمينية ومستوى أرباحها. ولم يتأثر هذا القطاع مباشرة بالأزمة العالمية، إلا انه الآن يصطدم بشركات إعادة التأمين العالمية التي خسرت مبالغ طائلة جراء استثماراتها في البورصات العالمية، وتحاول ان تستعيد جزءاً مهماً منها من خلال التشدد في عملياتها مع شركات التأمين ورفع أسعارها أو الطلب منها بمشاركتها في الأرباح والعمولات. وهذا الواقع سيضطر شركات التأمين الى رفع اسعار بوالص التأمين لديها ما قد ينعكس سلباً على حجم محافظها التأمينية. والمشكلة ان شركات اعادة التأمين العربية، لا يتوافر منها سوى عدد قليل قادر على تسعير اتفاقات اعادة التأمين وتأدية دور القيادة في هذا المجال. علماً انهم اصبحوا يعتمدون على موظفين عملوا في شركات اعادة التأمين العالمية. ولكن عليهم توثيق صلاتهم بشركات التأمين اللبنانية. وهناك ضرورة لتنظيم عمل وسطاء التأمين بإعدادهم جيداً للقيام بمهماتهم بالشكل المطلوب بدلاً من الفوضى الحاصلة حالياً والتي تنعكس سلباً على قطاع التأمين. ونتيجة للركود الاقتصادي الذي سيصيب دولاً عدة ومنها دول الخليج التي تحصل على نصف الصادرات اللبنانية فقد تتدنى قيمة محفظة التأمين على البضائع المشحونة بواسطة السفن. وخلال عام 2008 ازداد نمو عمليات شركات التأمين بنسبة 22.5 في المئة وبلغت قيمة اقساطها 590 مليون دولار. وقد ازداد النشاط التجاري في لبنان بنسبة 34 في المئة في عام 2008 وازدادت الصادرات بنسبة 23.5 في المئة وبلغت قيمتها 3.5 بليون دولار. وعجز الميزان التجاري المزمن عوضت عنه الرساميل الوافدة الى لبنان، والتي ازدادت بنسبة 46 في المئة وبلغت 16.1 بليون دولار، محدثة فائضاً في ميزان المدفوعات بلغ 3.5 بليون دولار اي بزيادة بلغت نسبتها 70 في المئة. ويحاول لبنان الاستقرار في محاولات جذب الاستثمارات الخارجية والخليجية تحديداً الى لبنان، معتمداً على جاذبيته وكونه ملاذاً آمناً لها. وهو يتنافس مع غيره من الدول العربية عليها كمصر مثلاً التي تملك طاقة استيعابية كبيرة في هذا المجال. لكن لبنان يراهن على النجاح في هذا الأمر لوجود قطاعات عدة يمكن الاستثمار فيها، ولموقعه الجغرافي ومناخه المعتدل، ولنظامه الاقتصادي الليبرالي وتوافر مختلف الخدمات الضرورية فيه، ووجود قانون يسمح بتملك الأجانب فيه وغيرها. لكن لبنان سيعاني من انخفاض تحويلات المغتربين اللبنانيين إليه للاستثمار أو الاستهلاك والبالغة عام 2008 حدود 6 بلايين دولار، والمساهمة المحدودة لمؤسسة «ايدال» في تشجيع الاستثمار وضآلة حجم النفقات الحكومية الاستثمارية في مشروع الموازنة والبالغ 4.3 في المئة فقط من إجمالي الإنفاق و1.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد يلجأ المستثمرون الخليجيون الى الاستثمار في الولاياتالمتحدة وأوروبا نظراً إلى الانخفاض الكبير في أسعار الأصول التي تضررت جراء الأزمة العالمية. إضافة الى ان المصارف اللبنانية قد تستخدم سيولتها العالية نسبياً للاستثمار في البلدان الغربية ايضاً للأسباب نفسها ما يمكن ان يحرم القطاع الخاص اللبناني من الاستفادة من تسليفات هذه المصارف بالمستوى المطلوب. اما إذا رفع مستوى اسعار الفائدة على التسليفات المصرفية، فإن ذلك سيؤدي الى ازدياد كلفة الاقتراض. وبالتالي كلفة الإنتاج وتدني مستوى القدرة التنافسية للسلع اللبنانية في الداخل والخارج. وكل ذلك ينعكس سلباً على الميزان التجاري وميزان المدفوعات ومستوى الاستهلاك الداخلي، ويساهم بانخفاض معدل النمو الذي يقدر بأقل من 4 في المئة عام 2009. ومن التأثيرات المباشرة للأزمة العالمية على لبنان، احتمال صرف 20 ألف موظف وعامل لبناني من وظائفهم، خصوصاً في منطقة الخليج التي يوجد فيها 400 ألف مغترب لبناني، وتوافر فرص عمل لأكثر من 30 ألفاً في السنة الواحدة. ويرى بعضهم ان هذا العدد يزيد عن ثلث القوى العاملة في لبنان، وأن مداخيلهم تفوق ثلاثة أضعاف المداخيل المحلية. وعودة هؤلاء الى لبنان ستؤدي الى زيادة معدل البطالة وبروز مشاكل اجتماعية جدية يجب ان تتضافر جهود الدولة والهيئات الاقتصادية لإيجاد الحلول الملائمة لها. ومن انعكاسات الأزمة العالمية خسارة العديد من المستثمرين اللبنانيين في البورصات العالمية لمبالغ ضخمة تصل الى بلايين الدولارات. ويؤكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ان هناك فرصة لبناء اقتصاد حديث وفاعل كفيل بخلق فرص عمل جديدة ورفع مستوى القدرة الشرائية للمواطنين، إلا ان ذلك يتطلب تحقيق سلسلة من الإصلاحات المدعومة بإرادة سياسية جدية. ومن اجل تقوية ثقة المستثمرين بلبنان يجب اعتماد سياسة مالية عقلانية وحازمة لحل مشكلة عجز الموازنة الذي سيصل عام 2009 الى 12.3 في المئة من الناتج ومشكلة الدين العام الذي بلغ 47 بليون دولار، وتشكل نسبته الى الناتج 162 في المئة. اضافة الى إنجاز الإصلاحات الواردة في خطة الحكومة المقدمة الى مؤتمر باريس 3، وخصوصاً في قطاعي الطاقة والاتصالات. ويبقى الاستقرار الأمني السياسي الأساس لجذب الاستثمارات الى لبنان وتحقيق نموه وازدهاره وتدعيم صموده امام ازمة عصفت رياحها بالعالم، ولا أحد يدري متى وكيف يمكن الخروج منها. * استاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية.