لم يكن في مقدوري أن اتجاوز ذلك "الساقي" الذي كان يرتدي الملابس الحجازية التراثية الزاهية، وينتصب في تحفز ووقار أمام فوهة قاعة الاحتفالات الكبرى.. كنت أحس انني بحاجة إلى أن ارتوي بشيء من ماء زمزم المبارك، من تلك الاقداح النحاسية التي كان تتلالأ في كفه الأيمن، فيما كانت يده اليسرى تتأبط دورقا فخارياً أنيقاً ومزخرفاً ومحلى بدعاء نبوي مبارك.. ومملوءاً بمياه زمزم المثلجة والمبخّرة والمعطرة بماء الورد.كنت في واقع الأمر شغوفاً بأن أغوص في أعماق ذلك الساقي "ساقي زمزم" هكذا هي تسمية من يمارس ذلك العمل الجميل. كانت مسألة الاحتفال وما يدور داخل القاعة يهمني، فهي ولأجلها كنت قدمت إلى ذلك المكان، غير أنني وجدت نفسي وبشكل عفوي انجذب إلى ذلك "الساقي" واتطلع إلى أن أغوص في أعماقه، لأعرف ولو طرفاً من حكايته، التي تعد جزءاً من حكاية "الزمازمة" أولئك الناس الفضلاء الذين قصروا حياتهم المهنية على تقديم هذا الشراب المبارك للناس، وهم يتدثرون بأريحية عذبة، ويستقبلون في ذات اللحظة مشاعر من يسقونهم ويردون ظمأهم ب "أفضل ماء" على وجه الأرض. لم تكن اللحظة لتتسع لا مكاناً ولا زماناً لكي أسافر بذاكرتي إلى تخوم التاريخ فاستعيد "قصة زمزم" منذ انبثاق أول فصولها التراجيدية الباهرة، على وقع صرخات الطفل المتأوه من شدة العطش، نبي الله اسماعيل عليه الصلاة والسلام، ولا على حالة الذهول والفرح التي ملأت فؤاد السيدة هاجر عليها السلام، وهي تحوط بكفيها النبع الحلم "زمزم" الذي تفجر فجأة من جوف الصحراء بجوار موقع الكعبة المشرفة، لتجعله أسير المكان نفسه دون أن يسيح إلى أبعد مما وصلته كفيها.ولم تكن اللحظة أيضاً كافية لأن استعيد الانشودة العذبة الشهيرة التي شدا بها الموسيقار الفنان "غازي علي" ومطلعها "شربة من زمزم وسقائي.. شربة من زمزم ورواني".صرت أحدق ملياً في ذلك الساقي، إلى أن وجدت نفسي وبشكل عفوي، استدرجه إلى حوار عفوي، أظن أنه جاء خارج سياق المهمة الإعلامية الأصلية التي جئت من أجلها. . سألته أولاً.. ما أسمك؟ .. قال: أنا شمس الأحمد، ثم دس يده في جيبه ودفع إليّ ب"الكرت" الشخصي له، واذا مدون عليه اسمه هكذا "شمس أبو عبدالله - ساقي زمزم على الطريقة الحجازية للمناسبات وحفلات الزواج". . حسناً.. ومن متى وأنت تعمل بهذه المهنة؟ .. هذه المهنة الأثيرة على نفسي تشربتها منذ ما يزيد على 25 عاماً، وانا سعيد جدا بأن اقف امام الناس واقدم لهم اقداحاً من مياه زمزم المباركة. . من الذين قمت بتقديم ماء زمزم لهم من الشخصيات الكبيرة؟ .. لقد تشرفت بتقديم ماء زمزم الى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في قصر الصفا بمكةالمكرمة في احد الاعوام الماضية، ولقد كانت اللحظة بالنسبة لي من أعظم لحظات السعادة في حياتي، كوني أقدم قدحاً من زمزم، الى مقام شخصية كبيرة كالملك عبد الله حفظه الله، ولقد غمرني حفظه الله بكلمات جميلة وهو يتناول مني الماء، عندما سألني عن صحتي وعن صحة رئيس الزمازمة، وهذا دليل على حجم الابوة واللطف والخلق العظيم لهذا الملك الانسان. ثم انني تشرفت كذلك بتقديم ماء زمزم الى شخصيات اخرى عظيمة وعلى رأسها سمو ولي العهد المعظم صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبد العزيز، وسمو النائب الثاني وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الامير نايف بن عبد العزيز، وسمو الامير خالد الفيصل امير منطقة مكةالمكرمة، وسمو الامير مشعل بن ماجد محافظ جدة.. ووجدت من هؤلاء الكرام الفضلاء كل معاني الابوة والانسانية. . ومن من الشخصيات من خارج المملكة، ارتوى من اقداحك هذه؟ .. اتذكر كذلك من الشخصيات العربية، انني خلال وجود القيادة الفلسطينية في مكةالمكرمة للاجتماع مع خادم الحرمين الشريفين، انني قد قدمت ماء زمزم للرئيس الفلسطيني السيد محمود عباس، وكذلك للسيد اسماعيل هنية، وعدد من القادة الفلسطينيين في تلك المناسبة. . وهل كانت لك مشاركات خارج مكة والمنطقة الغربية؟ .. نعم، لقد شاركت لمدة ثماني سنوات في فعاليات مهرجان الجنادرية السنوي بالرياض، وكنت أقدم مياه زمزم الى ضيوف المهرجان وعدد من زواره، وسط سعادتي بهذه الخدمة، ورؤيتي لفرح من أقدم له ماء زمزم المبارك. . أنت قلت ان ماء زمزم مبخّر ومعطر، أقصد المياه التي تقدمها.. كيف يكون ذلك؟ .. الواقع ان تبخير ماء زمزم اجراء معروف، فنحن نحضر المبخّرة ونضع عليها قطع النار "الجمر" ونضع عليها مادة "المستكا" المعروفة بنكهتها وتفاعلها مع النار، ثم "نكبّ" على المبخرة "ترمس" الماء الكبيرة فارغاً، ونتركه لمدة عشر دقائق حتى يمتلئ تماما بانبعاثات "المستكا".. ثم نبعد المبخرة عن الترمس ونغلفه فورا وندعه مغلقاً لمدة ساعة كاملة، بعد ذلك نملأه بماء زمزم ونضع فيه قطع الثلج وقليلا من ماء الورد الطائفي الاصلي، ليقوم بإعطاء نكهة الى ماء زمزم. . هل ما ترتديه الآن من ملابس، هو الزي الحجازي ام المكاوي؟ .. هذه الملابس التي ارتديها هي الملابس الحجازية التقليدية، والتي تتألف من (الثوب الابيض - والصديري الابيض كذلك، والعمة الصفراء - والكوفية الصندقة - والبقشة الملونة التي نلفها حول منتصف الجسم - والجزمة السوداء).. وهذا هو الزي الحجازي الذي يجب أن يكون متكاملا قطعة وراء قطعة كهذا بدون نقصان لأي قطعة منه. . منذ متى تعلقت بهذه المهنة؟ .. لقد بهرتني هذه المهنة منذ كنت طفلا صغيرا، اتردد على الحرم المكي الشريف، وكنت ارى "السقاية" -جمع سقا - وهم يقدمون ماء زمزم الى المترددين على الحرم الشريف من حجاج ومعتمرين ومصلين وطائفين.. وتحول ذلك الاعجاب والدهشة مع الزمن الى مهنة امتهنها وظللت سعيدا وفخورا بها. وقبل ان اختم حواري مع السيد (شمس) رحت أتأمل ما هو مكتوب على دورق الماء الخاص به، واذ عليه ما يلي: (اللهم اني اسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء وسقم، برحمتك يا أرحم الراحمين).. ثم هتفت بعفوية محضة - آمين.. آمين.