مذ كنت صغيرة، وأنا أتساءل: ما معنى الوطن؟ مرَّت الأيام، وانقضت السَّاعات، مهرولة، تسابق سنوات العمر، وفي غفلة، شاهدت الرُّوح داخل جسدي تكبر، نعم، ما عدت طفلة كما كنت في الانتفاضة الأولى ضعيفة وبلا أجنحة، أصبحت شابَّة بعزيمة فلسطينيَّة، والتاريخ أمامي يهرم. صرت أرى الحياة بألوانها الحقيقيَّة، والحق تكسوه غبار الضلال، في واقع جائر، فُرض على الكتَّاب. ما كنت حينها أعرف معنى الأرض، الحق، الهويَّة، العودة، والاستسلام، ولا كنت أدرك ماهيَّة المواطن العربيِّ. أيا وجعي، فلسطين، ما ظننت بذاك الوقت أنَّك ستبقين الأسيرة، رغم الثَّورة والانتفاضة وشلال الدِّماء الذي أغرق ملايين الشُّهداء لأجلكِ، ولا عرفت معنى الأسر إلاَّ عندما حُرمت من الحريَّة في سهولكِ وجبالكِ. نصبوا مقاصل التلال، وأعدموا الحجر بتهمة الشرَّف، واغتالوا البشر بحجَّة الإرهاب. اغتصبوا طفولة الزَّهر، وكسَّروا أحلام الشَّمس، بقوة عالميَّة. لقد منعونا من فلاحة الأرض، وملاحة البحر. نهبوا أحلامنا البريئة، سرقوا الماء ولوثُّوا الهواء، وفُرض علينا منع التَّجول. اعتقدت وقتها بأنَّ الوطن هو ذاك المكان الذي نُولد فيه ونكبر، فتنمو أغصان أحلامنا مورقة بأمانينا، وتزهر الأحلام شادية لحن الأمل. لكنَّني، وُلدت في مكان، وكبرت في مكان آخر، وزُرعت بذور أبجديَّتي في تربة لم تكن من ثرى وطني! إذن، ربَّما هو ذاك الفناء الذي تحطُّ به مشاعري متعبة من طول السَّفر، عندما تقرِّر أن تأخذ قسطاً من الرَّاحة بعد التَّحليق، في سماء طموحاتي الباسقة. كم هي جميلة محطات الورق التي اعتدت التوقف عندها؛ لأحطَّ عن كاهل قلبي ما يؤلمه من الكلمات الثَّقيلة، التي دُفنت تحت سكون الأسطر الخاوية، قُتلت أو ماتت، فالأمر سيان عندي. لقد توَّقف النَّبض في رئات انتظاري، وأصبحت التَّنهيدات بعيدة الأثر، يرتدُّ صداها والحرف ينازع، أوراقي بيضاء خاليَّة، آثرت الكبت على الكتابة! ويظلُّ السؤال القديم في دهاليز عقلي: ما هو الوطن؟