يا محمد ها أنت تقرأني و(...) في آن فلا ترأف ولا تتردد. تلقيتُ الكلامَ على يديّ نازعتني الذنوبُ ولم أفر من المعاصي ونال مني غبارُها. اصطفتني المياهُ، مذ بلغني سؤالكَ وأيقظني غرقٌ طويل. غُشيَ عليَّ مُرَّ بجناحك على فؤادي ولا تغادر مثلما جئتَ في ضبابٍ لم يعرفه الصخرُ أبدا. خذ يدي بعصاك ناولني طرفَ ثوبك اِرم حبلكَ لأصعد ضاقتْ بيَ البئرُ مذ تبعتك المياه فجرّد الروحَ حرفا ًحرفا وانحتْ كل ناتئ حتى تسمعَ سحجة العظم ِ وتسري الرعدةُ في الثياب. لن أوصيكَ إلا بما أوصيتني يوم رحلتَ يوم اقتربتَ ويبست الورقة تاركاً في راحتي زجاجة الوجد، حفظتُها وكابدتُ جور النسيان. وصية ضالٍّ استقرّت بين جنبيه. طافتْ الروحُ وعادت مثلما ابتدأتْ غريبة. القبة ُجاثية ياقوتة تنشقُّ والسبعون تتناسلُ منها الحدائق فلا تذهب تاركا مخيلتي مِزقا ً وفؤادي رهين المرايا. قبلك؛ كنت هائما، ابتكرتني الصحراءُ من سرابها ومرَّ بي خاطفٌ تلفّتَ لي وأسرَّ بقدومك، فاستويتُ ظلا في الرمضاء أفتشُ عن رُحّل يستسقونَ الفيء بالحكمة. قبلك؛ غبارٌ يلفُّ التخومَ ويطويها التيهُ بخرقتهِ الحمراء. قبلك فلاةٌ تمشي الغفلة ُحصنها الوحيد. أما بعدك فأكلتنا الحروب حربا ًحربا لا سجّيناكَ بثوبك و لا نفضنا الترابَ عن جبينك. كنتُ هائما، ألقط ُالحروفَ وأدوِّنُ الأسماءَ والبرق. العريُ ملبسي وزينتي الأولى. قيدتُ فرسي دخلتُ من أبوابٍ عدّة، رسمتُ سلالتك في الكهوف وبشرتهم بنزولك و خبأتُ علامتك ليميزوك. غرّة بيضاء تطلعُ من الطين تضيءُ الأقاصي نجمة تحط ّعلى صومعة فيظلنا زمانك. قبلك، الناسُ نيام؛ نزلتْ الأحلامُ، سوّت الليلَ وتنافستْ الأمهاتُ. سقط َالضوءُ في جبين ِالأب فلم يحتمل الغيبَ وقضى، فارشا ًسجادة َاليُتم مثلما نهر غائر وخفي. تلفّتَ الجبلُ و انحدرتْ الحيرة ُ ماكثة ًبين الوسائد. مراع ٍمجدبة، خبط ُنسور وقدحُ حوافر أوثانٌ زائلة ُالظل شموسٌ صاخبة، أبالسة ٌتتطافرُ بين الشعاب نخلٌ ناحلٌ لم يتنكس بعد وملائكة ٌحائرٌ ثلجها في الأيدي، يقطرُ وهو يحنُّ إلى صدرك. فلا تكشف عن نفسك إلا في خلاء سيدنو لك الوحش ويسعى بأمرك الغيمُ لا ترخ ِقميصَك في وادٍ لئلا تخرَّ الجبالُ وتتصدع. كنتَ أقربنا إلى النار كنت آخرَ النهر كنت الظل يوم لا ظل للأشجار كنت حجر التأويل وطينة الملاذ لما تزعزع البيتُ بقاطنيه حبسنا المضائقَ بالفدي فما بالنا شقيتْ أجسادُنا بالظمأ والحمى. ع الخاتمَ بين كتفيك لعاشقة تشتهيك وحيدها، تحنو على بردك وتلحفك بحلم لا يرويه أحد. كم غالبتْ الشوقَ وأشفقتْ عليك من فقد يتربص بك. امرأة أوتك من التيه اصطفتك من بين الطارقين وأغلقت الباب. امرأة نسجت لك الليل أشعلته وقرّبت الكتابَ إلى يديك امرأة وضّأتك بالضوء امرأة وضعت لك ووضعت عليك. في غيابك تغيبُ ولا نرى نارها إلا في أول البشرى. دع ثوبَك ولا يغرّنكَ الماء، يترصّدك عنده عرّافونَ هيّأوا قتلكَ علانية. كلما تأخرتَ قليلا ًزادني الشوقُ من نبعه وانبرتْ ريحٌ تشيرُ إلى أثرك. امتلأت زوّادتي وتخفّفتُ، قبل كتابك لم أجد القصدَ وبعدهُ سأنازع للخلاص منه. قبل كلامك لم يكن دليلٌ غشتني حجارة ُالنسّاكِ وحين أغمضتُ بُغية َالنجاةِ من أجراسهم تهافتت النصالُ ودأبَ الذعرُ بنباحه يتلوّى في الأودية. كلما تذكرتْكَ الصحراءُ ينتابُ الكثبانَ حزنٌ كم جفاها الماءُ وذبلتْ حياضُها وتخطفتني. لك الريحُ اليقظة لك الرمل ماحيا كلّ أثر لك الجنّ ناصتا لك حابس المطر لك النار لا تخبو لك ضيعة الغدير لك الخيمة الغامضة لك الصخر خاشع والكهف. وضعتُ لك الليلَ لتغتسلَ به ونزلتْ رسلٌ فلم تتنبّه، حتى هبطتْ الأجنحة فاحَ المسكُ ورُفعت الحربُ و دنا الفجر. لم أتطلب مغفرة ولا معجزة لسبابتي وليست البلية ما أخشى فادنُ منّي أتى النداءُ ونُفخَ في النحاس. خُذني واشدُدْ على يدي في وطئك يفز الكلأ ويستدلُّ بريحك الرعاة بيننا سفر طويل ورؤى متشابهات فاصطبر عليَّ ونادني باسمك. وارثوكَ تفرَّقتْ بهم الأرضُ خالطهم الهوى اقتادوا الدنيا من خطامها واختلفتْ في صدورهم مواضعُ الحروف. تراصّتْ على قلوبنا الأقفالُ هجرَنا الأهلُ، هجرنا الولد، نبذنا المُلكَ حين سوّلتْ لنا من أنفسنا وفاض بها الكتمان. أكبادُنا الحرّى تشرّدتْ خلفَ سراب صرّمَ جباهَنا وتشققت. حتى أتى الأمرُ وفتنتنا الشجرة. هكذا أنبأنا كتابُكَ بلا ريبٍ ولا غشاوة وحَزنّا الحزنَ حتى آخره. رفعنا التقيّة َمن النوافذ، راية ًلا يقرؤها سوى العارفين والأشباهِ أولي العزم. طوردنا في ليلٍ وجاءت الحمامة ُ والغار. دفعنا حصَّتنا من الدم ِ صَحبنا الألمَ ونادانا فائضُ الندم، ما لمحنا البحرَ بعدُ، ولمّا تنادت علينا الهجرة ُ بأحباشها الأكثرَ ألفة من الأقربين؛ دهمتْ أيامَنا بغربائها ورافقتْ السفنُ عمرَنا كله. غرزك لزمناهُ حتى أدمت الشمسُ أعوادنا وفتِنّا في ديارنا فيها نُفينا وفيها نتجلد. كل ذاك وما ابتغينا غيرَ سماءٍ تحنُّ وأرض ٍتصفو للعالمينَ فكيف واتاكَ وقصصتَ رؤياكَ يا محمد. * شاعر سعودي.