تعتني كثير من الأمم والدول والمنظمات، بل والأَفْرَاد بالتخطيط للمستقبل؛ نظراً لأهميته البالغة لحاضر هذه الكيانات ومستقبلها على حد سواء. وقد انْتَقَلَ التخطيط للمستقبل من مجرد كهانة وتنجيم إلى علم له قواعده وأسسه التي يقوم عليها، وباتت له دراسات منظمة في الجامعات العريقة. ومن نافلة القول الحديث عن فوائد التخطيط للمستقبل وأهميته، لا سِيَّمَا وقد تحدثننا عن ذلك في مقالات سابقة تحت هذه النافذة بعنوان: عالم الغد وثلاثية الإعاقة، هل تعوقنا النصوص عن قراءة المستقبل؟!، ترويض الوحش الأسطوري، ومفتاح كل شر. ولكن ما يلفت الأنظار في هذه الآونة هو أن بعض الشخصيات والكيانات تتخذ من المستقبل تكأة للهروب من استحقاقات الحاضر، وتهمل حاضرها بدعوى التخطيط لمستقبلها! وهذه الدعوى لا تعدو أن تكون خداعاً للنفس؛ لِأنَّ أَي تخطيط للمستقبل لا يستند للواقع، ولا ينطلق منه ولا يعتمد عليه؛ فهي مجرد أمنيات خادعات ودعاوى كاذبات. فالشخص الذي يدعي أنه يخطط لمستقبله وهو فاشل في حاضره، هو شخص يخطط لمزيد من الفشل؛ لأن مستقبل الشخص هو انعكاس وامتداد متطور ومتغير لحاضره. والكيانات الجمعية التي تزعم أنها تخطط للمستقبل بينما واقعها ممتلئ عن آخره بالفشل، وهي تنتقل من تخطيط متخبط إلى تنفيذ مرتبك، هي كذلك تخطط لمستقبل أكثر فشلاً من حاضرها. إن أول قاعدة ينطلق منها التخطيط الجيد والناجح للمستقبل هو العناية بالواقع، والانطلاق منه، وليس الهروب من استحقاقاته إلى خداع النفس أَحْيَانَاً، وجماهير الأمة في أحيان أخرى تكون تحت مظلة التخطيط للمستقبل. ولا يعني هذا التقاعد عن التخطيط للمستقبل والعناية به وإِهْمَاله والتكاسل عنه؛ بل هي دعوة لكل نفس، ولكل منظمة، ولكل كيان إلى الصدق مع النفس، والنظر بجدية للحاضر، والانطلاق من أرضيته إلى حيث المستقبل، وليس الهروب من الاستحقاقات الحاضرة إلى حيث المجهول. ولا يعني كذلك الرضا بالواقع، والعيش في جلباب الماضي، واجترار الأحزان على ما فات، والقعود عن الفاعلية والتفاعل مع كافة مكونات الحضارة، بل نستوعب تجارب الماضي، وعوائق الحاضر في النظر والتخطيط للمستقبل. إن ماضينا هو من جاء بحاضرنا.. وحاضرنا هو من سيذهب بنا لمستقبلنا.. فإذا أحسنا فهم الماضي.. واستوعبنا دروس الحاضر.. فثم مستقبل مبشر.. وإلا فإننا أمام محاولة للهروب ناحية المجهول وفقط.