مع بداية كل عام جديد، تتأكد على مستوى الأفراد والمجتمعات، مسألة العناية بالمستقبل، والعمل على استشراق آفاق العام الجديد على المستوى الخاص والعام ولعل هذا التأكيد هو الذي يبرز أهمية أن يكون الإنسان مستقبليا، بمعنى فهم المعطيات والعوامل المتوفرة لفهم الغد، وفق تلك المعطيات والعوامل، وبالتالي فإن المستقبلية التي نقصدها، هي التي تتكئ على معطيات الواقع ووقائع الحال، دون إغفال دور الميتافيزيقيا في هذه المسألة. ومنذ القدم اهتم الإنسان بموضوع المستقبل واستشراف شؤونه، وما ظواهر العرافة والكهانة والتنجيم التي تميزت بها الحضارات القديمة في بلاد بابل واليونان وسواها إلا مؤشر على اهتمام الإنسان منذ أقدم العصور بمسألة المستقبل، وذلك لدوافع الإنسان مختلفة ومتعددة. فالمستقبل بأي شكل كان، ليس وليد الصدف والمعاجز الغيبية، بل هو وليد الإنسان وفعله. فالمجتمع الذي يستقيل عن حاضره ويجعل وقائعه من صنع الآخرين فإن مستقبله لن يتعدى هذا السيناريو أيضا. لأن المستقبل وفق هذا المنظور، هو امتداد للحاضر أما إذا أصر المجتمع على المشاركة في حاضره، وبذل جهودا في سبيل تطوير واقعه، فإن المستقبل سيكون بشكل أو بآخر من كسبه. @ المستقبل هاجسنا: وثمة ضرورة في هذا الإطار للتأكيد على أهمية أن يكون المستقبل بقضاياه ومصائره وآفاقه هو هاجسنا الحقيقي الذي ينبغي أن نبذل كل الجهود والطاقات في سبيل تعميم هذا الهاجس، وإيصاله إلى كل المساحات الاجتماعية كلها. وإن هذا الهاجس يدفعنا في الإطار العربي والإسلامي، إلى القول بضرورة التوجه الجاد، نحو إنهاء الخلافات العربية - العربية، وتنقية الأجواء من رواسب الحقبة الماضية، والبدء بمرحلة جديدة من التضامن والتعاون بين بلدان العالم العربي والإسلامي. لأن أغلب الطاقات والجهود والإمكانات التي أهدرت كانت من جراء الصراعات الداخلية، إذا يقول "عبدالمنعم سعيد" رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام أن الصراع مع إسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي "200" ألف من الضحايا ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية في الإطار العربي والإسلامي، كلفت (2.5) مليون ضحية، ومن حيث التكلفة المالية، فإن الصراع الأول كلف العرب حوالي (300) بليون دولار، أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي (1.2) تريليون دولار. لذلك فإن حضور هاجس المستقبل في واقعنا العربي والإسلامي، يخزنا للتخطيط للمستقبل، الذي هو تدخل واع للصياغة والتوجيه من قبل إرادة عربية بعينها، تملك إمكانات التسيير وخلق الظروف المؤاتية. فالتحديات التي تواجهنا كعرب ومسلمين عديدة ومتنوعة، كما أن الآمال والتطلعات التي نحملها عديدة ومتنوعة. لذلك فنحن بحاجة إلى جملة من القيم والمبادئ التي نكرسها ونعمقها في واقعنا، حتى يتسنى لنا مقاومة التحديات وتحقيق الآمال. @ الرؤية المستقبلية: وهي لا تتأتي من قراءة كتاب أو مقال أو دراسة في المستقبليات كما أن الرؤية المستقبلية لا يتمكن منها الإنسان عن طريق الانعزال في صومعة عن الحياة أن الرؤية المستقبلية مكانه ومرحلة، يبلغها الإنسان، من جراء جهود متعددة ومتكاملة، توصل الإنسان وتؤهله لاستشراق المستقبل المنظور والبعيد. وبدون هذه الجهود المتكاملة الذاتية منها والموضوعية، يبقى المستقبل في نظر الإنسان الذي لم يوفر هذه الجهود ضربا من ضروب الخيال والرجم بالغيب. من هنا فإن الرؤية المستقبلية تتحقق عن طريق منهجية مدروسة، يقوم الإنسان العربي بتنفيذها، والالتزام ببنودها وأبعادها المختلفة. وتأسيسا على هذا ومن أجل أن لا نلهث وراء تحولات العام الجديد وتطوراته، دون المسك بمنطقها وبوصلة تجاهها. من الأهمية بمكان أن نتسلح بالرؤية المستقبلية، لما لها من تأثير مباشر على عملية الفهم والإدراك لتطورات الحياة في العام الجديد. @ التخطيط للمستقبل: بما أن الزمن له أهمية قصوى في حياة الإنسان، باعتباره هو الحياة فكل يوم يمر على الإنسان هو نهاية لجزء من حياته. وحتى لا تكون أعمال الإنسان فوضوية، أو بلا هدف مرتجى فمن الضروري العناية بجانب التخطيط في مسيرة الإنسان. وكما يبدو أن الإنسان المتحضر، يخضع جميع شؤونه وأعماله إلى برنامج وتخطيط مدروس، يوصله إلى أهدافه وغاياته بأقل تكلفة مادية ومعنوية ممكنة. فهو مثلا لا يسير شؤونه العلمية والثقافية وفق مزاجه وردود أفعاله، إنما وفق تخطيط دقيق يراعي متطلبات رقيه العلمي والثقافي، وإمكاناته الذهنية والفعلية وبفعل فضيلة التخطيط الدقيق، يتمكن من اجتياز العقبات التي تحول دون تحقيق طموحه العلمي والثقافي بينما الإنسان المتخلف فإنه حتى لو امتلك إمكانات هائلة وثروات لا تعد ولا تحصى وطموحات رفيعة إلا أنه ولغياب مبدأ التخطيط في حياته لا يستفيد من هذه الإمكانات بل تتحول عليه وبالا مستمرا لسوء تقديره وتدبيره. فالتخطيط للغد، يحول الإمكانات القليلة، إلى إمكانات ذات أثر وجدوى وغيابه يبعثر الإمكانات، ويشتت القدرات ويدخل الإنسان في أنفاق ودهاليز، تزيده حيرة وضياعا. من هنا ونحن نستقبل العام الجديد من الضروري أن نغرس في نفوسنا ومن يلوذ بنا مبدأ التخطيط والبرمجة ونبدأ بالدوائر الصغيرة في حياتنا، نخطط لها ونسير لبلوغ غاياتها وفق ذلك التخطيط ونتدرج في تطبيق هذا المبدأ، حتى تكون كل حياتنا تسير وفق مبدأ التخطيط. وإن التخطيط الذي نقصده ونتطلع إلى سيادته في واقعنا العربي، هو ذلك التخطيط الذي لا ينفصل عن الإرادة الإنسانية، التي تعمل وتكافح من أجل نقل التخطيط وبنوده النظرية، من الورق والتأملات المجردة إلى الواقع العلمي فتصميم الإنسان وعزمه المتواصل على برمجة تطلعاته وصولا إلى تحقيقها على الأرض وفي الواقع هو جزء لا يتجزأ من التخطيط الذي نراه ضروريا أن يسود واقعنا الخاص والعام. لهذا وانطلاقا من التحديات التي تواجهنا والآمال والتطلعات التي نحملها ونحتضنها، من الضروري أن نستقبل العام الجديد، وهذه المبادئ والعناصر مغروسة في نفوسنا وحاضره في فضائنا الثقافي والاجتماعي حتى نتمكن من الاستفادة من العام الجديد، في مجابهة التحديات، وتحقيق التطلعات والآمال، حتى يكون لنا جميعا عام خير وسعادة.