ألقى الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام خطبة الجمعة لهذا اليوم، موصياً المصلين بتقوى الله، وأن من علامات توفيق الله لعبده تيسيرُ الطاعة، وموافقة السنة، وحسن الخلق، وبذل المعروف. واستهل خطبته بأن أي حدث صغير، أو خبر كاذب، أو قول مشكوك فيه نبأ الساعة، وخبر رئيسي، يملؤون به الإذاعات، وتزدحم به الشاشات، وتتواصل فيه المتابعات: والتغريدات حتى يجعلونه إما أعجوبةَ الدهر، وإما قاصمةَ الظهر، من غير مصداقية ولا تروٍّ، ولا معالجة صحيحة، ثم ينقشع الغبار، ويتبين الحال، فلا ترى أثراً، ولا تسمع خبراً، وما فاد من ذلك إلا إرباكاً للنفوس، وصرفاً عن المهم، وإشغالاً عن مصالح الأمة. ثم أوضح معاليه بأن من يصنع ذلك هو (الإرجاف والمرجفون)، إنهم يثيرون ما يورث الاضطراب والقلق، وعدمَ الاستقرار، ويبثون كل ما يحبط ويثبط، ويخوضون في الأمور العامة من قبل أن يتبينوا حقائقها، أو ينظروا في آثارها وعواقبها. وأن الإرجاف والتخذيل يوهن العزائم، ويثبط الهمم، ويضعف القوى، ويفت في العضد، ويتبنى قصصاً وقضايا وأحداثاً تدور حول الإحباط والتشاؤم والفشل تظهر المجتمعات وكأنها فاسدة لا تحمل خيراً أبداً فيتحدثون عن الفاسدين والمنحرفين، ويخذلون الصالحين والمصلحين، وكأن الصالحين لا يعرفون طريقهم، والمصلحين لا يهتدون إلى سبيلهم. وأضاف بأنهم يكبرون الأخطاء، ويعظمون الزلات، ويرفعون الوضيع، ويضعون الرفيع، ويكبرون الصغير، ويصغرون الكبير، ويصدون عن التلقي، ويغيرون ويبدلون، ويقتلون الهمم، ويئدون الإبداع، ويقللون من مقام الناجحين ويتجرؤون على ولاة الأمور. وأن أهل الخير عندهم لا مكان لهم، وأهل الباطل في رؤيتهم هم الممسكون بزمام الأمور، فَتُنْتزع الثقة من أهل الفضل، ويختفي التأسي بالقدوات، وأهل الصلاح، ويخوضون في الأمور الدينية، والأحداث السياسية، والقضايا الاقتصادية، والحوادث الأمنية، والمسائل الاجتماعية، والشؤون التربوية، والصحية، والتعليمية، وفي كل الميادين تراهم يخبون ويضعون. فيما أشار معالي الشيخ بن حميد بأن المرجفين سبيلهم التعويق، والتخذيل، ونشر الفتن؛ فالمرجف يتكلم عن الداء، ولا يبالي بالدواء، يثير العيوب، ويخفي الفضائل، يقع على السلبيات، ويصد عن الإيجابيات، فتظهر السوءات وكأنها هي السمة السائدة في المجتمع. وأن ميادين الإرجاف واسعة في الصحف، والمجلات، ومواقع العمل، والمسجد، والمدرسة، وأماكن التجمعات، فتنتشر الأخبار، وتتصدر الأحداث، وتبرز في خطوط عريضة، وصور كريهة، وأساليب ساخرة، يُلَبِّسون، ويرددون، ويعلقون، ويضحكون القوم، وقد تحمل أدوات التواصل الاجتماعي في ذلك وزراً كبيراً، وإثماً عظيماً حينما تسارع في نشر الأكاذيب، وتضخيم الأحداث، وبتر الحقائق، وتكثر من تداولها، وإعادة تدويرها. وبين بأن أهل العلم قرروا أن الإرجاف طريق حرام لا يجوز الإقدام عليه، بقول القرطبي رحمه الله: "والإرجاف حرام لما فيه من أذية أهل الإيمان"، بل ألحقه بعضهم بكبائر الذنوب لأن الله لعنهم في كتابه، وأمر نبيه بنفيهم ومقاتلتهم، وتشتد الحرمة في أيام الفتن، وظروف تسلط الأعداء، وما ذلك إلا لأن الإرجاف لو فشا في الناس فإنه لا يزيدهم إلا شراً وفساداً، وضعفاً وهواناً، وفتنة وفرقة. ويأتي من بعد المرجفين السماعون، عمار المجالس، لا يفتؤون يرددون الأحاديث، وينشرون الأراجيف في المجتمع الصغير والكبير؛ يخطئون في قراءة الأحداث، ويشوهون الواقع، بل لعلهم يزورون التاريخ، ويجعلون البئر المعطلة قصراً مشيداً. وأن للإرجاف والمرجفين مقاصد ومآرب من الإرهاب الفكري، والحرب النفسية، وتوهين العزائم، وإدخال الهم والحزن على أهل الحق والغيورين على مصالح الدين والأوطان والأمة، وبث الفتن والاضطراب بين الناس، وفقدان الثقة، والنيل من الكبراء، وأهل الفضل والاقتداء. ولهذا فيلاحظ اقترانُ الإرجاف بالفوضى والتشتت والانفلات، والبعدِ عن الانضباط والهدوء، وهم لا يضرون إلا أنفسهم، فقد حرموا أنفسهم أن يراهم ربهم في مواطن يحبها، من نصر أمتهم، والسعي في رفعتها، وإعلاء همتها ونصرها، وغالباً ما يتولى كبر الإرجاف الأعداء والمنافقون. وأردف معالي الشيخ قوله؛ فعلى أهل الإسلام الغيورين إدراكُ خطورة هذا المسلك، وعظمُ إثمه، وعظيم أثره، وعليهم التحري في النقل، وفي الاستماع، دون مبالغات كلامية، ولا مؤثرات صُوَرِيَّة، فالمسلمون في خندق واحد، وسفينة واحدة، وأهل الإيمان لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، واحذر – يا عبدالله – أن تكون مرجفاً، أو يرجف عليك، كم هو جميل أن تجعل من أذنك غربال تصفية، لتميز أصوات المخذولين، ونداءات المرجفين، وتستمعَ إلى القول فتتبعَ أحسنة. وإن الطريق الحق والسبيل الأسلم أن يتجنب غير المختص، وغير ذي الشأن الخوض فيما لا يعنيه، ويدعَ الأمر لأهله، والاختصاصَ للمختصين. وأبان معاليهما الفرق بين الإرجاف والنصيحة والإنكار، فالنصيحة لازمة، وإنكار المنكر لا بد منه، والأمر بالمعروف متعين متحتم، والإرجاف هو ما ينشر روح الانهزامية واليأس. فالمصلح الواثق يعرف الداء لتشخيصه من أجل الوصول إلى الدواء، ويعرف العيوب ليعالجها، ويعرف مقدار نسبتها إلى الفضائل. وأن من الإرجاف وسبيل المرجفين محاولة التشويش على المسلمين، والقصد نشر الفوضى والبلبلة تحت أي دعوى واستهداف رابطة المسلمين التي لا يعدلها رابطة، وأخوة الدين التي لا يماثلها أخوة، ولا سيما حينما يتوجه المسلمون إلى هذه البلاد والديار المقدسة حجاً وعمرة وزيارة، فإنهم يتمثلون وحدتهم الجامعة ويتناسون خلافاتهم بل إنهم يوقنون أن هذه الديار المقدسة في شعائرها ومشاعرها ليست ميداناً لنقل الخلافات، وتصفية المواقف. ومن أجل هذا، فإن ثوابت سياسة المملكة العربية السعودية خادمة الحرمين وراعيتهما وحاميتهما، وذلك بعدم السماح لأي أحد أو جهة بتعكير صفو أمن المقدسات، والعبث بأمن الحجاج والعمار والزوار، وهي ملتزمة ومسؤولة عن اتخاذ كل التدابير الحازمة الصارمة للحفاظ على أمن البلاد، وأمن الناس: المواطن والمقيم، والعاكف والباد. وإن خادم الحرمين الشريفين، ونوابه، ورجال دولته، وشعبه، يبذلون الغالي والنفيس في خدمة الحرمين والشريفين، وخدمة قاصديهما قربة لله، وشعوراً بالمسؤولية، وبرهان ذلك ما تقر به عين كل مسلم من الأعمال، والخدمات، والمشروعات، والإنجازات مما يراه ضيوف الرحمن، ويشاهده كل قاصد لهذه الديار. واختتم فضيلته الخطبة بتوصية العباد أن يتقوا الله ويلزموا سبيل التعاون، والتآلف، والتناصح المخلص، والتراحم، وكل ما يجمع الكلمة، وينبذ الخلاف، ويعز أمة الإسلام وأهله، ويحفظ على المسلمين دينهم، ويبسط في الديار أمنهم، إنه سميع مجيب.