يوظف عنوان رواية رجاء عالم (طوق الحمام) (2010م) التي أُعلِن فوزها مناصفةً بجائزة البوكر العربية في الأسبوع الماضي ، مرجعية عنوان قديم هو كتاب الفقيه الأندلسي ابن حزم (ت456ه) (طوق الحمامة في الألفة والآلاف) الذي اتخذ من الحب موضوعاً له يصفه ويشرح معانيه ويتقصى أسبابه ويعدد أعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة . وقد نفهم للوهلة الأولى من (طوق الحمامة) في عنوان ابن حزم دلالة الحلية والتزيين التي جرى القدامى على القصد إليها في عناوين كتبهم ، على طريقة (المحلَّى) لابن حزم نفسه ، أو طريقة العناوين التي نقرأها -مثلاً- في (شذور الذهب) و (الروض المربع) و (قطر الندى) و (الذخيرة) والتي لا تختلف عن عناوين أخرى واصفة غير محلاة في إضفاء قيمة مجازية مدحية على الكتاب من دون أن يكون لها صلة دلالة بموضوعه . لكن (طوق الحمامة) يفيض بدلالة إيحائية من مدلول الطوق ومن مدلول الحمامة اللذين يصنعان علاقة بين الجمال والألفة تتجاوب مع ما يفيض به موضوع الكتاب من رفيف وهديل وتناغ وتجاوب وصبابات وجوى كان الحمام دوماً عونها التعبيري وبلاغتها المصورة . ولا تختلف رجاء عالم عن ابن حزم الأندلسي ، في القصد إلى استيحاء دلالة الحمام وطوقه . فروايتها تفيض بالحديث عن المحبة والألفة والإيلاف ، سواء من جهة العشق والهوى في علاقات الجنسين ، أم من جهة ما يجاوز ذلك إلى الدلالات الدينية والروحية والإنسانية والمكانية التي يجتمع بها الناس في مكةالمكرمة مكان الرواية الرئيس ومحضن أحداثها ، تماماً كاجتماع الحمام الذي تلح الرواية على ترداد ذكره وتصوير أوضاعه بقدر ما تعبر به . ولذلك يرد في الرواية في إحدى يوميات يوسف، ما يكتبه لعزة وهو في حافلة النقل الجماعي: (أهرب ببصري لورقةٍ تشتاق عينيك وللطريق , كلما رفعتُ بصري بَرَقَ بشرٌ وحوانيت ، وألوان ، تصدمني . أُرَاهِنُ: لا يمكن أن يجتمع في مساحة مترين نفس لون البشرة ، مكة حمامة تُطَوِّقُ عنقها ألوانٌ متجاوزة لتدرجات الطيف البشري) . ويتكرر ذكر الحمام في رؤيا يوسف في نومه ، حين يحلم بخيط أبيض ويضع آخر الخيط بكف عزة ويطير بها على مكة وجبالها ، فيرسم الخيط بأعناق الحمام بين يوسف وعزة قوس قزح لكل تلك الأعناق ويبسطها على أفق مكة . وهذا غير حضور الحمام برفيفه وهديله وخطواته وريشه ونظراته وأسرابه . وهذا يعني أن رجاء عالم تجد في (طوق الحمام) الإيحاء الذي ترصد من شرفته أحداث روايتها وترسم عوالمها وتترامى إلى فضاءاتها الدلالية ، مثلما وجد ابن حزم الإيحاء المناسب في (طوق الحمامة) لموضوع المحبة ، وبمدى تتجاوب فيه رجاء مع عنوان ابن حزم في دلالته الباحثة عن الحب والمتشوفة إليه ، والراصدة لما يصنعه من تعارضات حادة مع ما ينافي القيمة الإنسانية والصدقية وما يجافي مدلول الحياة على ما يجاوز العيش إلى الكرامة والمتعة والاطمئنان . ولهذا تنبني الرواية ، فعلاً ، على تعارضات متعددة ، بين جيل من الشباب يعيش زمناً مختلفاً وثقافة مغايرة ، وينطوي على معان وأحلام تصنع رؤيته للعالم ، وبين الواقع الساكن والسائد الذي ألِف الحياة بشكل تقليدي ، ولم يقف كارهاً للتغير وضداً لمعاني الشباب ، بل معادياً لها وحرباً عليها ، متسلحاً بسلطة المعاني التقليدية التي تتبادل مع سلطة المال والإدارة الحراسة والحماية ، وتستحيل إلى حاجز يقف بين الشباب وبين المستقبل . بل يغدو للمسألة وجهاً آخر من التعارض كما تكشف الرواية من وجهة الشباب هو التعارض بين الواقع وبين الماضي الذي اتخذته الوجهة التقليدية ملاذاً في تصديها للشباب وحُجّة لتأليف موقفها في سبيل التصدي لهم . وتنجلي في ثنايا الموقفين تعارضات القيم والمعاني التي تبدو منافقة ومهترئة وانتهازية ومتعصبة وطافحة بالعنف العاري في الموقف المضاد للشباب . وهي معان وقيم تكتسب في مساحة تجليها الروائي في مكةالمكرمة مدلولاً يعكس وجه التعارض بين دلالة مكة الدينية المقدسة والإنسانية ، وبين دلالات الجشع والعنف والعنصرية والفساد وأكوام النفايات وأكواخ الفقر وجماعات التطرف والمخدرات والدعارة ، وما يستحيل بالدين إلى غطاء لا مسافة تجاوز شكله ، وإلى قوة عارية وغير مستنيرة . هذه التعارضات صنعت للرواية مستويات سردية متراكبة ومتعددة ، فغدت حكايات لا حكاية واحدة ، وذلك بعدد أبرز شخصياتها الذين يجمعهم زقاق أبو الرووس والذين يتصلون به وبهم بشكل أو بآخر ، يحكيها أكثر من راو ، ويتلقاها في داخلها أكثر من مروي له . لكنها ، بالطبع ، مجتمعة بأكثر من رابط ، سواء من حيث المكان والزمان السرديين ، أم بالعلاقة بحدث رئيسي يستدعي علاقات مختلفة بالشخصيات في لحظة الحضور وفي امتداد الماضي -من ورائها- لكل منهم ، وهذا وذاك بالنتيجة يصنعان وحدة الرواية من خلال خطتها المتجهة إلى المروي له المجرد والواقعي . هكذا يغدو الحديث عن أي شخصية من شخصيات الرواية إطلالاً على شبكة من العلاقات المتعارضة التي تنخرط تلك الشخصية فيها وتفعل . وهي تعارضات ، تلد باستمرار توتراً لعلاقات الفقر والغنى ، والنزاهة والخسة ، والمرأة والرجل ، والقديم والجديد ، والمُعْلَن والمخفي ، والداخل والخارج ، والضيق والسعة ، والدين والدنيا . وأتصور أن مكان الرواية الذي يؤلف شخصياتها الأساسية ، وينميهم إليه ، وهو زقاق أبو الروس ، هو الشخصية الأساسية التي تتخلق بها الشخصيات الأخرى ، في (طوق الحمام) مثلما تتخلق الأحداث ، فيغدو دلالةً أوسع من مدلول المكان بمعناه المحايد ، أو هو المكان بالمفهوم السردي الذي رأى فيليب هامون أنه يؤثر على الشخصية ويحفزها على القيام بالأحداث ، ويدفع بها إلى الفعل حتى قال بأن وصفه هو مستقبل الشخصية . وقد بدا وصف أبو الرووس في الرواية وصفاً لكائن حي ناطق ، وأسند إليه مؤلف الرواية الضمني دور الراوي الذي يروي بضمير المتكلم ، ويحضر شاهداً على ما يروي . ويقوم في بداية الرواية بوصف ذاته: (من يجرؤ على كتابة زقاق أبو الرووس غيري أنا ، أبو الرووس نفسه ، برؤؤسه المتعدد . أنا الزقاق الصغير بطرف ميقات العمرة بآخر مكة) . ويمضي الوصف بنغمة ذاتية متحدية برعبها وغموضها وعنفها واكتنازها بالتاريخ والغيبيات والأحداث والشواهد ، التي تُذْهِل بما تصنعه من دهشة وتصْرِف عن سؤال التحقق من الإيهام الفانتازي بكلام المكان . فالزقاق بالإضافة إلى ضيقه وهامشيته ، معتم ، ومعبأ بخمائر فضلات ونزِّ بالوعات ونشاز أصوات (كشأن روائح الحواري المنسية) ، ويخنق بروائحه سكانه . أما تاريخه فمحمَّل بحروب ودماء ، واسمه ذاته يحيل على القتل والدماء ، لأنه جاء -كما يحكي- من حدث قبل ظهوره للحياة ، وهو العثور في هذه البقعة على أربعة رؤوس مدفونة لأربعة رجال ، ***** في عهد الأتراك أو الأشراف كسوة الكعبة القديمة وفروا بها وأقاموها خيمة يستضيفون تحتها أصحاب العسرة والمجانين وذوي العاهات للاستشفاء ، وقد كُتِم خبر السرقة والكرامات حتى لا تشيع البدعة ويحتذيها الطامعون ، وأُجْبِر قاضي مكة على الحكم عليهم بالشِّرْك وأبيحت معه دماؤهم . ويتحدث أبو الرووس عن الصعاليك المعاقرين للصمغ أو العرق المصنَّع في أحواشه المهجورة والأقبية ، وعن مواظبته إخفاء حبكات العشق والانتقام . ويقول للضابط المحقق ناصر القحطاني (المجرم والقتيلة هو أنا أبو الرووس) . ولا يتوقف وصف أبو الرووس على وصفه هو لنفسه ، بل يشيع وصفه على ألسنة شخصيات الرواية وفي أحداثها ، ففي مذكرات يوسف دلالة على الجهل والأمية في الزقاق من خلال تحسُّر يوسف أن يكتب الكاتب مجلدات ثم يكتشف أنه في زقاق أمِّي ، وإن كتبَ لا يُقْرَأ . وتتحدث المعلمة عائشة في رسائلها بما يكشف عن ثقافة القمع والاضطهاد والرقابة وحبْس الزمن والظلامية ودونية المرأة في أبو الرووس: (أنا كنت ذراعاً من أذرعة الأخطبوط الذي هو أبو الرووس ، أذرعة بلا عدد تُحارب الزمن ، وتخنق البنات الصغيرات) . وتسأل في موضع آخر: (هل للبنات مشكلة مع أبو الروس) وفي ثالث: (حلمتُ مرة بأبو الرووس في هيئة أنثى ملقاة على طرف الطريق) و في رابع (حين تبحث عن تاريخه تجده قد تساقط مع المعمَّرين ، وختمت البلدية حين قامت بعملية تجميلية فاستأصلت اسمه وتاريخه ، وسمته بدرب النور) . وتكتب في رسالتها لديفيد (إنني امرأة مشرقة ، في بلاد تُعلِّمها على الخارطة بملصق شمس ضاحكة بينما لا أعرف من تلك الشمس إلا الجملة الإسمية الأزلية بكتاب القواعد للمبتدأ والخبر: الشمس مشرقة ، القمر منير) . وتكتب عن شبح أبو البراقع المرعب في الظلام «أعتقد بأنها عملية مسخ يُمارسها أبو الرووس لإبقائنا تحت سيطرته ، وأعتقد بأننا لن نكون مستعدين لإسقاطه لأقنعته. أبو براقع هو التجسيد للإرادة القمعية الكامنة في نسوة أبو الرووس). ولدى خليل الطيار نجد وصف أبو الرووس بالضِّيْق والفوضى والإجرام ، في قوله للضابط ناصر: (شكراً لجهودكم ورجال الدفاع المدني الذين انحبست عرباتهم برأس الزقاق وما تقدمت خطوة نحو الحريق) ثم يقول له: (تتساءلون الآن عن جثة، في بحر من العمالة المخالفة لأنظمة الإقامة ومُروّجي المخدرات ، والحرائق المتكررة وطفح مياه الصرف الصحي وانهيارات المباني المتآكلة المُثْقَلة ، بحر يجعل دوريات الأمن ... عاجزة عن الاختراق إلى أعماق أبو الرووس) . وفي لقاء يوسف مع تيس الأغوات ، نقرأ ما يؤكد هامشية المرأة ويضيف إليها ما يحفزه أبو الروس فيهم من حب الموت الذي يشير إلى أقصى أفكار التطرف الإرهابي ، فحين يسأله تيس الأغوات: (هل رجعت لأبو الرووس ؟ عزة ربما قُتِلت ...) يجيب يوسف: (ومتى كانت حية ؟! متى كان أي منا ...؟ المرأة حشرة ، بينما الموت لنا نحن الرجال بطولة ، لتحرير أرواحنا ...) . وفي الربع الأخير من الرواية ، يرد خبر بجريدة أم القرى يصف أبو الرووس في سياق تحول ، وهو قيام شركة إيلاف القابضة بتصميم مشروع من برجين ومجمع تجاري ومواقف سيارات في أبو الرووس .