كتاب رجاء عالم الأخير "طوق الحمام" المركز الثقافي العربي، مشروع روائي تتوج فيه الكاتبة مسيرتها السابقة، بل كل مسيرة الرواية السعودية، عبر عمل من السعة والجهد الانسكلوبيدي والفكري والتأملي، ما يرشحه لتصدّر منجزات السرد العربي. ومع أن الرواية تقتفي منهج امبرتو ايكو في "اسم الوردة" ذلك العمل الذي غدت تأثيراته في كل اللغات، احدى سمات عصرنا الروائي، غير ان رجاء عالم في كتابها هذا، تستخدم ملفوظها الخاص لتدخل في متاهة المحلي المتصل بثقافة مكان محدد هو "مكة"، موضوع المؤلفة الأثير، ومركز المخيال الإسلامي العالمي. الرواية كواقعة كونية، تظهر في هذا العمل، لا في خطاطات المرويات والوقائع والصور، بل في الطريقة التي تقيم فيها جزر المعرفة جسور التواصل في جسد روائي مسبوك بلغة التأويلات، تلك التي تتواتر عليها عمليات التنقيب للكشف عن الأوجه المتغيرة في مسارات التأويلات نفسها. فالروائية لا تكتفي بوضع الأزمنة والامكنة والحبكات والشخصيات في المصهر الروائي، وتدع للقارئ حل معادلاتها، بل هي تقوده إلى درب تلك المعرفة، حيث يقوم معمار الرواية على كشف المضمرات فيها. اختارت رجاء عالم عنوان "طوق الحمام" لتدخل في إشكالية تنطوي على قدر من التحدي، ف "طوق الحمامة" عنوان أشهر سردية للحب في لغة العرب، ولكن مغامرة العنوان ذاته تتوضح في مسار الرواية نفسها، حين تقيم صلة بين ابن حزم والبطلة في الرواية، سردية رجاء عالم تقوم على رواية قصة عن قصص سابقة، حيث يصبح البحث عن الأصول في مروياتها وكشف مصادرها، من بين مهمات الرواية ذاتها. ابن حزم الذي قضى عمره بعد سقوط الأندلس، بين المنفى والسجن والترحال، ليسبق زمانه في علوم الكلام ودراسة العقائد والفلسفة "لخص تلك المكتبة العظيمة لصياغة خلاصتها في مفتاح يفتح بين الأديان الثلاث. لقد وجد المفتاح في الحب الذي يشكل الجسور بين البشر "هكذا تكتب الساردة. ولكن مكة في مقدمة الرواية" حمامة تطوق عنقها ألوان متجاوزة لتدرجات الطيف البشري" وسنجد الحمامة تتردد كصفة للمرأة والمدينة معاً، رمز الحب الممتنع والمرأة الموؤدة. تبدأ الرواية بجريمة قتل امرأة في زقاق بمكة، ويصبح البحث عن القاتل، عملية تتقاطع في غيهبها تواريخ المكان ومتاهة روحانياته، انها الحبكة التي اسماها ايكو الميتافيزيقيا البوليسية، أي تلك التي تبحث في الوجود الانساني وعلاقة الفرد بالاخر وغيبياته وتخيلاته، وسنجدها في عمل الروائيين بعده وأشهرهم باولو كويلو الذي شاعت رواياته الروحانية حتى غدت الأكثر انتشارا بين الشباب. رجاء عالم في هذ الرواية تقدم شخصية المرأة القتيلة المنبعثة في صورها الثلاث: عزّة التي ترسم في خرائط الجسد حريتها، وعائشة الكاتبة التي تعيش في فضائها الافتراضي، ونورا المنبعثة من جسد الاثنتين، محظية لشيخ يطوف بها خارج المكان، لتصل إلى ربط مروية مكة بتاريخ العرب في الأندلس، وتواصل عبر عرض لوحاتها انتقال صورة المرأة القتيلة من الكتمان إلى الجهر. رجاء عالم تكشف الرواية في مفتتحها عن سرها المدفون في فضاء مستعاد بشخصيات الرجال، فحي أبو الرؤوس الفقير الذي تقتل فيه المرأة، يروي بنفسه سر حكايته وتورياتها، قبل ان تحدث الجريمة. أبو الرؤوس الذي يجاور الحرم بمكة، يوثق تاريخه بتسمية أربع شخصيات تراوحت بينها شبهة القتل "الرؤوس المشمولة بفحم، بهذا (الحجاب) بيني وبينها": يوسف الممسوس بالتاريخ، يحمل شهادة البكالوريوس من جامعة أم القرى، وهو العاشق الموحد للمرأة والمكان معا. ومعاذ الذي تدرّب ليخلّف أبيه في إمامة المسجد، فلجأ لسرقة الوقت للعمل صبيا باستوديو مؤقت، وخليل سائق التاكسي الذي يحمل شهادة طيار من الخارج. وتيس الأغوات الذي يلتقط المانيكانات من الواجهات ليمارس معهن شذوذه. بينهم يطوف ناصر المحقق الذي يتحول إلى عاشق القتيلة بعد الاطلاع على رسائل حبها للألماني الذي تولى علاجها. رجال الحي الفقير، هم امتداد لتاريخ من التمردات واسئلة تتجاوز المتعارفات، حيث ضربت اعناق أربعة رجال في الماضي يشبهون أفعالهم. خطاب الرواية يسع مكة الرمز والواقع معا، الماضي والحاضر المتجه إلى مستقبل يوحي بضياع تاريخها. مكة، المدينة الكوزموبوليتية، التي يقصدها الحجيج من كل أنحاء العالم، تتحول إلى ورشة بناء ضخمة لناطحات السحاب وعمارة تبتلع فسحات الحداثة عطر المكان ومعالمه الروحية. ولكن السرد ينتقي شخصياته من مكان هو اقرب الى زريبة فقر، حيث تتجسد نجاسات الأماكن القذرة، في مفارقة بين وجه مكة الرسمي ووجهها الشعبي. القتل في هذه الرواية افتراضي، فهو حجب المرأة عن العالم، انهاء وجودها وتحويله إلى أسطورة تؤجج شبق الرجال، وتعقم فيهم فعل الحب الإنساني، فتفكك علاقات التواصل بينهم وبين مدينتهم كفضاء يتحركون فيه بحرية. يتحولون مجازا إلى هاربين من المكان وإلى قتلة افتراضيين. هذا جانب من خطاب الرواية الذي يتشعب في منطلقاته الى مرويات المكان التاريخية. قداسته التي تُخدش في قذارة تخفيها أزقة البؤس وهرطقات تثير أسئلة حول منطق الحب الانساني وحرية المعتقد وطريقة فهمه. وهنا تصل رجاء عالم في الرواية إلى ذروة السبر المتأني الذي يعنى بالخلفيات الروحية والأسطورية للمدينة المقدسة، قدر عنايته باللغة رافعة ينتقل عليها وينزلق بين كثافة تحفر في العمق، وخفة ومطواعية تهرب فيها قدر ما تقف فاحصة وجريئة أمام القضايا الكبرى. الكتابة بهذا المعنى، تصبح شيفرات تفك ما لا تستطيع تجسيدة الأفعال، فيوسف أحد أبطال الرواية، كاتب في جريدة، وفي مدونة على الانترنيت، يقتفي المحقق ناصر في نصوصه أسرار المكان الذي سرق مفاتيحه، وجسّده في متاهات أحلامه وهوسه، مثلما يتتبع أثر القتيلة في سطور عشقه لعزة. كذلك عائشة المثقفة التي تسترجع حبها البعيد بفعل الكتابة، لتصبح رسائلها إلى الألماني الذي تولى علاجها، درسا يكتشف من خلاله المحقق ما غاب عنه طوال الوقت من مشاعر ازاء المرأة: " كلماتي ضمن أسراب تلك الأصوات اليائسة التي تبحث عن مهرب. أتواجد على الشبكة العنكبوتية لأتعلم كيف أتحاور مع رجل". سنجد في تواتر المرويات، وبينها رحلة اليهود من مكة هربا من القتل، وتخيل استعادة سلالتهم امتداها في الخفاء، ما يساعدنا على قراءة تراوح بين تفسير ومسرحة الأفعال، ما يشغل المؤلفة في الرواية فكرة الحيز الرحب للمدينة، قدرتها على ان تستوعب جدل الافكار وتتحرك في فضاء لا تتنكر فيها لتواريخها، حتى تلك التي قامت مكانتها الروحية على محوها. القسوة في فكرة التطهير، ستجد تعبيراتها في صراع حول ما هو محجوب ومخفي من أسراها، فالمرأة التي يتحول مصيرها دالة على تلك القسوة، هي مرآة المدينة المكبلة برهاب الخطيئة. استطاعت المؤلفة ربط جزر المرويات العائمة رغم تباعد التواريخ عبر تقنية العناوين الفرعية، االتي تتيح لها مرونة الانتقال من موضوع إلى آخر. هذه الرواية (566 صفحة) تبدو متعبة لقارئ عادي، ولا تستطيع جذبه حتى لو صبر خلال المئة صفحة الأولى، وهي مقياس التجاوب في قراءة الرواية النخبوية. كان بمقدور المؤلفة الاستغناء عن بعض ما هو فائض من خطابات تثقلها باستعراضات الكاتب العليم بالخفايا واللغات، فتشتت سياحتها في الأماكن من وصف مقاهي الشكولاتة وراقصات الفلامينكو، إلى ترجمات شواهد القبور الشعرية، ووضع مقاطع من رواية العاشقات للورانس، إلى بطر الجمال الخارجي للمرأة المتغنجة، نورا التي تعيش هوس فكرة الضحية المتمردة. كل ذلك يبدو أقرب الى حمولة تمتص كثيرا من الجهد الفكري والفني لمؤلفة جادة ومتميزة مثل رجاء عالم. وهي بهذا المعنى، لا تستطيع أن تطلق سراح شخصيتها كي تتحول من نموذج قولي،إلى حياة متحركة خارج تهويمات العقول العليا. مع هذا ينبغي ان تٌقرأ الرواية بما يليق بها من مكانة تتقدم فيها معرفياً وفنياً على كثير من الروايات المكتوبة بالعربية.