شكّلت الكتابة الروائية عند القاصّات السعوديات متنفّساً، أو ضرباً من ضروب الاحتجاج على أوضاعهن وأوضاع بنات جيلهن، داخل المنزل، وفي الفضاء العام. ولم تتوانَ هذه الروايات التي تتوالى في الآونة الأخيرة، وتنصقل أساليبها السردية، وتتوسّع وتتباين مرجعياتها، عن اقتحام موضوعات حساسة، أو النهل من تجارب شخصية، وإثارة الكامن من الحياة، والمسكوت عنه، والمهمّش، والممنوع، والحرام، والعيب، في سياق خلل اجتماعي تسبّبه في الدرجة الأولى السلطة الذكورية الطاغية. وفي مطالعة لأطروحة الناقد السعودي سامي جريدي عن الرواية النسائية السعودية، نكتشف لدى سلسلة طويلة من الكاتبات تبدأ بسميرة خاشقجي (بنت الصحراء) التي كتبت أولى قصصها في بيروت، إلى ليلى الجهني، وزينب حفني، ونورة الغامدي، وقماشة عليان، ومها الفيصل، ونداء أبوعلي، وصبا الحرز، ورجاء الصانع، ورجاء عالم. نكتشف هذه القدرة الأدبية على تطويع التشكيل السردي، واستخدام التقنيات الروائية المتنوعة، كالتقطيع والتذكّر والتداعي والتكثيف والمونولوغ الداخلي، إلى اللغة الحلمية والرمزية، وسوى ذلك من إمكانيات توفرها الرواية المتطورة، لتبسط الكاتبة من خلالها، ومن منظور الأنوثة ومخاضاتها العسيرة، موضوعات أساسية وملحّة في عالم القصة النسائية السعودية خاصة، والعربية عامة، من مثل الزواج المبكر، وتعدّد الزوجات والأولاد، والعنوسة، والطلاق، وقسوة الآباء، والحرمان والجفاف العاطفي. في هذا السياق المتجدّد مضموناً وأسلوباً وبناءً، تتقدّم الروائية السعودية رجاء عالم، بروايتها الجديدة الضخمة «طوق الحمام» (المركز الثقافي العربي) التي تقارب صفحاتها الستمائة، وهي لا تباشر او تكرر موضوعاتها السابقة من جديد. بل تفلح في نقل بعض العناصر الروائية القديمة، إلى أرضية جديدة أكثر اتساعاً وعمقاً وإيحاءً. فالفضاء المكي الذي تنضوي تحت سمائه الكاتبة، ويتردد في رواياتها، يعاود الظهورمحبوكاً هذه المرة بحبكة بوليسية، أو شبه بوليسية. لكن هذا الفضاء الحميم المسكون في لغة الكاتبة ووجدانها لا يتخلى عن جاذبيته الروحية. بل لعلّ الرواية وحبكتها تدوران حول هذا الشعور بالخشية، الذي يتلمّسه القارئ، من أن يؤدي هذا التطور العمراني والاقتصادي إلى فقدان البريق الباطني الديني الذي ينبعث من أرجاء هذه المدينة المقدسة، وتاريخها، وآثارها العريقة التي يهددها نشوب أساسات العمارات والأبراج الشاهقة في لحمة الجبال البركانية. وزحف الأسواق ببضائعها التايوانية والصينية والكورية، ومطاعم الوجبات السريعة والبقالات والمخازن لتضيّق أنفاس الحرم المكي، وتخنق هواءه القدسي. بين جثة عزّة ابنة حارة أبو الرووس المكية الشعبية المتخلّفة، والسعي المحموم للمحقق خليل لمعرفة القاتل، تنفتح قصة رجاء عالم على تاريخ مكة الاجتماعي والإنساني، وتكشف عن تحولات الأمكنة والعقليات والنفوس، وصراع البشر وتدافعهم على النفوذ والمال والسلطان. وينقلنا التحقيق الذي يجريه خليل إلى البيئة المكية الكوزموبوليتية، حيث يتفاعل خليط من الأجناس والثقافات والأذواق. مكة التي لا يمكن أن يجتمع في مترين منها لون البشرة نفسها « مكة حمامة تطوّق عنقها ألوان متجاوزة لتدرجات الطيف البشري» ص 25. ففيها يتجاور السائق الباكستاني والمحاسب السوداني والشيخ الحبشي والبائع الإفريقي واليمني والممرض الفيليبيني والخيّاطة التركية. وكل العمالة الهاربة أو المتبقية من موسم الحج، أوالمتخلّفة بلا أوراق رسمية. أما مكان الحدث وبؤرته ففي عمق زقاق أبو الرووس الذي ينتظر مصيره الآيل إلى الدمار، والزوال عن الخريطة، بعد ما لم ينفع تبديل اسمه إلى حي النور. الإسم الذي يتناقض كلياً مع انهيار مبانيه المتآكلة وحرائقه المتكررة، والطفح الدائم لمياه صرفه الصحي، وازدحام العمالة المخالفة لأنظمة الإقامة، وتكاثر مروّجي المخدرات والدعارة والشذوذ. الحي الذي يتعرّض لصدمة الحداثة التي تغزوه بآلاتها وجرّافاتها. إنمّا يعبّر باستسلامه لقدره المحتوم عن مرحلة انتقالية لا بدّ منها، للتخلّص من رائحة الجريمة المفترضة التي علقت به. جريمة قتل المرأة عزّة، وما تمثّل، والتي تزامن انتهاء التحقيق حولها على يد خليل، مع تهجير الحي، وتفريغه من قاطنيه، وهدم بيوته، وجرف أرضه، وكأنما ختام التحقيق وضع حداً لمثول المكان. ولكأن من قتل عزّة حقيقة أو توهّماً، هو الحي الذي كان يغتال نساءه قهراً وعسفاً وتظلّماً. قبل أن تغتاله يد التطور. بل إنّ الكاتبة تستنطق الحي الذي يقرّ بجريرة ما اقترفت يداه، وما استحقه عقاباًعلى ما فعل: « المجرم والقتيلة هو أنا أبو الرووس» . فتتحوّل قضية القتل من قضية جنائية فردية، إلى قضية عامة. القتل هنا قتل جماعي، يحمل وزره من صنع من التاريخ النسائي تاريخاَ قائماً على الكبت والحصار، وعلى الرقابة والإقصاء واللامبالاة. لغة خاصة في رواية «طوق الحمام» تتحرر رجاء عالم من المستهلك من الرموز والرواشم والكليشيهات اللفظية، لتفتح الباب على لغتها الخاصة المعبّرة عن المتوجَس والمكبوت والمحجوب والمحبوس، ولتطرح إشكالية المرأة وكينونتها المهدورة، ومآزقها الوجودية ومكابداتها، بما يسفر عن المشاعر الحقيقية التي تفترضها مرحلة انتقالية، تنهار فيها قيم وأنساق اجتماعية بالية، لتحل مكانها قيم وأنساق أخرى، تحمل معها إمكانية خلخلة الأبواب الموصدة، أمام المرأة السعودية التي بدأت تزداد حظوظها، فاختلفت إلى المدارس والجامعات، وانتُخبت في عضوية الغرف التجارية، وظهرت في الإعلام المتلفز، وسطّرت رأيها في منابر الصحف والمجلات والدواوين الشعرية والروايات والقصص. تحاول رجاء عالم في الرواية «أن تجمع شظايا هوية الجيل النفطي» كما يكتب يوسف لحبيبته عزّة. الجيل الذي يعاني رغم رخاء الحياة، من تمزقات وجودية، ويحاول أن يتصالح مع عالم يبهره ويغريه، بقدر ما يجهله. وأن يلاحق تداعيات حياة جديدة، وتحوّلات في العقلية والبناء ووسائل الترفيه. حياة يفسدها الاكتئاب وزيادة الكوليسترول وقصر الأعمار. ولا تنفصل في الرواية القضية النسوية ومعاناة المرأة عن القضية الاجتماعية العامة التي تتحمل شرائح من الرجال الفقراء عواقبها المدمرة. كما هي حال « النزّاح» الذي ينزح المخلفات البشرية الصلبة بلا حماية صحية. بيد انّ معاناة المرأة الطرف الأضعف، هي الأظهر والأشمل والأعمق. مع إمكانية أن تتجاوز أحياناً ظرفها ووضعها المزريين، وتتحمل مصيرها بيديها العاريتين، تحدوها إرادة فولاذية، مثل أم السعد العائدة من حياة أشبه بالموت، والتي اختطت طريقها متسلّحة بأدوات العصر المتطورة (المضاربة في الأسواق) وضاهت الرجال بقدراتها وخبرتها. أما النسوة الضعيفات الصاغرات فيستسلمن لأقدارهن، ويتحايلن على ضعفهن بمزيد من الرقى والطلاسم، والأدعية والتعاويذ، واستظهارالآيات القرآنية. كذلك تغالب عائشة بطلة الرواية التي تستعيدها رجاء عالم، من روايتها السابقة « موقد الطير». تغالب بالكتابة واقعاً مثخناً بالآلام والقروح والعجز. تبني رجاء عالم « طوق الحمام « على أحجية بوليسية لتشقّ بها تلافيف ذاكرة مكة التاريخية والحديثة، ولتضيء على أمكنتها وأحداثها وتقلباتها، وتتواطأ على أسرارها وخفاياها، من خلال استدرار خليل المحقق احاديث المشبوهين أو الشهود اوالمتواطئين أو المتكتمين. ومطالعة قصاصات الصحف ورسائل المحبين على الحاسوب، ومذكرات المؤرخين، وتصفح الصور القديمة والحديثة التي التقطها اللبابيدي في حياته، وطرّز بها جدران منزله، قبل أن ترديه رصاصة من جماعة الجهيمان عام 1979 الذي اعتصم بالحرم المكي، مبشراً بقدوم المهدي الذي سيستولي على زمام العالم. كذلك تتمحور الرواية حول الذاكرة المكانية الماثلة والمهيمنة على كثير من الوقائع، والمواضع والأمكنة التي درست أو تداعت أو استجدّت. فنتعرّف على ما بقي من أسواق مكة وأزقتها ودكاكينها وبسطاتها. وعلى عطورها وحليّها وتمائمها وأقمشتها ومطرّزاتها. وعلى مذاق طعامها وأطباقها وأصنافها. وتنضوي في الذاكرة طقوس مكة ومناسك الحج، من طواف وسعي ووقوف واعتمار وتقصير وحلق، وتجتمع « رائحة خلاصة رغبات البشر والتكفير عن ذنوبهم» وتتداعى في الرواية مظاهر وأسماء متباينة. من أسماء الروايات الأجنبية والمترجمة، إلى المظان التراثية العربية والإسلامية، إلى الأشعار الإنكليزية والمقاطع الروائية. إلى آهات أم كلثوم المتفجّعة على الحبيب، وخُطب عبد الناصر الثورية، وتلاوة المقرئين الشجية. المرأة في عين الروائية وذاكرتها وأحرفها، معجونة بماء العذاب والقهر. وتمثّل عائشة بطلتها، وهي الوجه الآخر المخفي لعزّة، برسائلها الإلكترونية، وما تبثه فيها من لواعج وصبابة وتحرّق، وما تتخيله، أو تنسجه من أحداث مختلقة بوحي من قراءتها رواية دي إتش لورانس « نساء عاشقات». تمثّل ذروة الاستلاب النفسي. بدءاً من اسمها عائشة الذي يعني، كما تفسّره للألماني الذي اخترعته، والذي لا يفقه العربية، بأنها التي تعيش مطلقاً. أي الموجودة والمستمرة عضوياً على سطح الأرض، فيما الحياة تتجاوز هذا التكوين العضوي، لتخترقه الصبوات والنزعات وتحقيق الذات الإنسانية المحرومة منها، والمحرومة من أنوثة لا تتفتح في الضوء والهواء، إنما تعيش في عوالم تحت الأرض. وتتشرنق حول ذاتها، في محاولة لحماية جلدها من العيون والنور، خائفة من الحياة، والاستسلام لبهجتها، من جرّاء التنشئة المنحازة والمفروضة، والترويض المستمر على التمييز بين الجنسين. وجوه عائشة رسائل عائشة يغشاها هذا الأسى العميق، لمآلها الأنثوي الدوني والشعور بالانسحاق « أنا قطة مدعوسة بإسفلت « وفقدانها احاسيس اللمس والشم، التي تتشبّع بهما عندما تتخيل نفسها ذاهبة إلى مدريد على صورة « نورة». وعائشة تمتصّ حياة عزّة، وحياة نورة التي تحطّم أصفاد الجسد وأغلال الحواس لتنطلق في شوارع مدريد حرّة في التعبير عن ذاتها، تحاول كما يفعل الآخرون، أن ترقص، وتغني، وتسمع الموسيقى، وتزور المعابد والمتاحف. وأن تستجيب لنداء خفي أن « انتشري بأطرافك لكل أركانه، احتلّي كل زواياه، انبسطي إلى اللانهاية التي بوسع أطرافك أن تبلغها» ص 376. أما عزّة فخائفة وجلة من جسدها وحواسه، وأسراره. مغلولة بالإحساس بالذنب واللعنة والفتنة النائمة في هذا الجسد الذي هو لعبة أتوماتيكية بلا بطارية، أوأسلاك موصلة للحواس والقلب. الرسائل الموقّعة باسم عائشة هي العصب الحي لرواية « طوق الحمام» تلاعب أوتار القلب، بما فيها من تباريح وعذابات، وخواء روحي. وليس الا عالم الكتابة يحرّر المرأة عائشة أوعزّة، من أغلالها المنظورة والمستورة لتحلّق في فضاء الفكرة الأثيرية، بعد أن قتلتها العادات، وشلّها الخوف من الخارج. ومثلّت الرسائل هويتها الباطنية الذاتية، فطوت الخارج على ذاتها وإطارها الداخلي. ولما تماهت مع نساء لورانس العاشقات، اكتشفت كيف تعرّج الأجساد إلى مدارج الروح. وكيف تمثّل الأحاسيس بطانة النفس وتجسيدها الحي. في رسائل عائشة الإلكترونية منفذ للهروب من الواقع المغلق عليها والمحاصَرة فيه. هروب من المكان الواقعي المقفل على السلطة البطريركية (الأبوية) إلى حيّز متخيّل استيهامي تمارس الذات فيه حريتها، عبر لعبة الكلمات، ومدارها المفتوح على الصوت الذي يتلهّف إلى التواصل الإنساني الحقيقي. إلى السفر الوجدي لملاقاة الآخر المتقدم والمتحرّر والعاشق للحياة. عائشة التي تحاول أن تطوي صفحة ماضيها، لا تنيط الاضطهاد بالرجل وحده، انما تجعل من المرأة الضحية، مكملة لإنتاج هذه النزعة التربوية الاضطهادية ، حين تمارس دورها كمعلمة أو ناظرة لتكون البديل الذي يصبّ فتيات المدرسة في قوالب جاهزة ومحددة، فتقتل فيهن أي بادرة أو إحساس بالأنوثة، ولو بصورة رمزية، من مثل وضع شريط الشعر الملون على الرأس، أو طلاء الأظافر، أو الضحك، أو التخفف في الكلام أو التعبير الحر. اما لغة رجاء عالم فلغة مطواعة وبليغة، تتطاول مرتقية معارج العرفانية والتصوف، وهي تصف حلقات الذكر التي يقيمها مشبّب في بستانه، وينخرط فيها المجتمعون في قراءة بُردة البوصيري متلفعين بالوجد وتسابيح الدفوف. وتتحرر أجسامهم من ثقلها الدنيوي خفيفة أثيرية. بل تجعل الكاتبة من اللبابيدي مصوّر مكة وحرمها، عابداً متنسكاً، « يحشد في صوره روح مكة، كمن يستحضر الأسماء العظمى في حبات مسبحة» ص 230. كذلك حين تجعل من مفاتيح الكعبة التي اتُهم يوسف بسرقتها، مفاتيح القلب. حيث القلب مفتاح الكل. بل إنّ الصلاة هي قبل أي شيء آخر، صلاة القلب. وهي لغة تنهل من الموروث الحكائي الشعبي القائم على صور (أبوكاليبسية) قيامية أخروية، تنبثق في أوقات الأزمات والمحن والحروب، وأزمنة الشدائد والتحوّلات والانقلابات الاجتماعية والسياسية الكبرى، في صور مهدوية عدة. وكما ترتفع لغة رجاء عالم المتوهّجة معانقةً صفاء الروح، كذلك تتلبّس ملمساً حسّياً، وذائقة إيروسية، حين يشفّ الوصف عن فتنة الأجساد الأنثوية، ويتأجج الشبق في عيون الرجال النفاذة، والمهلوسين المكبوتين والمحرومين، أمام عري المانيكانات، مثل تيس الأغوات، ورغبته الجارفة في أن يمسّ هذه الدمى الفيلينية، وأن يسرقها ويحتفظ بها في بيته.