طرح العقل الغربيّ الحديث هذا السؤال كثيراً، في ظلّ بحثه عن مرجعيات أخلاقيّة لا تخضع للإطار الدينيّ بشكلٍ كامل، إذ لا يمكن إقامة أي فلسفة للقيم (أكسيولوجيا) دون معالجة قضية الصدق والكذب. تضيق مساحة هذه الورقة عن تناول كل النظريات الأكسيولوجية المهمة في هذه القضية، ولكنها ستحاول الإشارة إلى اتجاهين متناظرين هما أهم وأشهر تيّارين في هذا السياق. يمثّل (ايمانويل كانط) وتبريراته الفلسفية التيّار الأول، إذ يقدّم كانط (المنطق) بأكثر تجلياته صوريّة كمرجعية لإدانة الكذب أخلاقياً، فالحقيقة والخير عنده هما الشيء نفسه تقريبا. يرى كانط أنّ البشر كائنات واعية حرّة وهي تتمتع بالكرامة بناء على سمتي الوعي والحريّة، فهما السمتان المسؤولتان عن قدرة الإنسان على إدراك أحكام العقل العليا والقدرة على التماهي معها. يكون الإنسان أكثر ما يكون وعياً وحريّة عندما يتخلّص من كل نزعاته العاطفية ورغباته الغريزية الخاصّة ليعلن اتساقه مع الواجب الأخلاقي بمحض إرادته. لذلك فالصدق بالنسبة لكانط قيمة غير قابلة للتجاوز بأي حال من الأحوال وهذا ليس مشروطا بتحقيق المنفعة لأيّ كان، بل هو ما يمليه الواجب الأخلاقي المطلق. فهو فقط ما يليق بالكرامة الآدمية، إذ أنّ الكاذب بحسب كانط لا يهين الحقيقة فحسب، بل يهين نفسه كذات بشريّة ويهين الذين يتلقّون كذبته أيضا وتكمن الإهانة هنا بالخرق الصارخ للحرية والوعي أي ما تقوم عليه الكرامة الآدمية. لذلك بحسب كانط وتياره، لا يمكن تبرير الكذب في أيّ من النماذج السينمائية التي تناولتها الورقة بطبيعة الحال. على الضدّ من كانط، يحاول الاتّجاه النفعي (العواقبي) الذي من الممكن تمثيله بالفيلسوف الإنجليزي (جيرمي بنتام)، إذ يرى بنتام أن الأخلاقيات بشكلٍ عام ليست قيماً مطلقة بذاتها، بل هي مرهونة بتحقيقها لمنفعة أكبر عدد ممكن من الناس لذلك فالنسبية تكتنفها إلى حدّ بعيد، وعلى هذا الأساس فإنّ أغلب صور الكذب في الأفلام الثلاثة مبررة تماما بل ومطلوبة أحيانا. ليس المقام مقام تأييد لأحد التيارين أو اعتراض عليه، وإنّما محاولة لفهم نموّ الأمر في سياق التفكير الغربيّ. يطرح جاك دريدا في محاضرته (تاريخ الكذب) مفارقة تخص الكذب في العصر الحديث، فيقول: «وهكذا ينكشف أنّه في الوقت الذي يشتكي فيه وايلد من احتضار الكذب، تظهر آرنت قلقها من تضخّمه الذي يفوق الحدّ في عالم السياسة». أرى في الحقيقة أنّ هذه المفارقة مفتعلة من دريدا، فكلام (أوسكار وايلد) كان متعلقا بنسق الفنون والجماليات من خلال نقده للمدارس الواقعية في الفنّ، رغم تطرّقه إلى بعض مظاهر القانون والسياسة بشكل عرضي فقط، بينما كان حديث(حنّا آرنت) متعلّق بنسق السياسة والقانون ضمن نقدها للخطاب السياسي الحديث المدعّم بفيض التقنيات والمعلومات والصور التي ساعدت في اتساع الفجوات التي تنفذ منها الأكاذيب إلى الوعي الجماهيري. والفرق كبير جدا بين النسقين من حيث طبيعتهما الأخلاقية إلى الدرجة التي تجعلنا نزعم أن دريدا قد استغلّ مغالطة (المشترك اللفظي) في افتعال هذه المفارقة لا أكثر. فسواء عند تبنينا توجّه «كانط» الإطلاقي أو توجه «بنتام» العواقبي، فإنّ الكذب المُجرَّم في كلا التوجّهين هو ذلك الكذب الذي يكسر العقد الضمني المضمر بين البشر بالتعارف على الحقيقة. إذا لا يكون المرء مدانا أخلاقيا لمجرّد قوله ما يخالف الواقع بل عندما يتعمّد مخالفته في المقام الذي يُتوقّع منه الترفّع عن ذلك. فعندما أعطيك نقودا مزيفة مع إخباري لك أنّها مزيفة أو علمي بسابق معرفتك لذلك فإنّي حينها لا أخدعك وكذلك الأمر مع اللغة ونحوها، أمّا ما كان خارج هذا التعارف من النكات والحكايات وسائر ما تقتضيه الفنون فلا يدان أخلاقيا من هذا الوجه بل لعلّ الأقرب للإدانة فيها هو انحطاطها في ذلك كما أشار وايلد. كي لا نقع في ما أزعمه عن هذه المغالطة فإن المفترض أن ما تتناوله الورقة محصور بما هو داخل إطار العقد التعارفي المضمر من حيث الأصل. لعلّ من أكثر ما يساعد في الكشف عن وجود مثل هذا العقد المضمر في تصوّري، نظرية لا تندرج تحت (الأكسيولوجيا) بشكل مباشر وإنّما جرت العادة على إدراجها ضمن المباحث الدلالية والتداولية ، وأعني نظرية (بول جرايس) عن الطبيعة التساهميّة للّغة، إذ ينطلق جرايس في محاولته مقاربة الطريقة التي يفهم بها البشر (ما يفترض به أن يقال دون أن يقال لفظيا)، من قوله باعتماد البشر المضمر على أنّ الأصل في علاقاتهم بشكل عام وفي اللغة بوجه أكثر خصوصية هو (مبدأ التعاون الإيجابي) وعليه فإنّ متلقّي أيّ خطاب يفترض ضمنا وبشكل دائم ما لم يجر تنبيهه بشكل استثنائي أن الخطاب الذي يجري تلقّيه يتّسم بالجودة في أربعة جوانب: هي النوعيةquality (حيث من المفترض أن ما سيتلقّاه مطابق للواقع أو أنّ المتحدث يعتقد مطابقته له)، والكميّةquantity (إذ يفترض أنّ ما سيتلقّاه متناسب مع مقدار حاجته إلى المعرفة به)، والعلاقة relation( إذ يفترض بأن ما سوف يقال له علاقة حقيقية بالموقف أو السياق الذي ينبغي الاهتمام به)، وأخيرا الكيفية manner(إذ يفترض المتلقّي أن ما يوجّه أليه سيكون متنظما بعيدا عن الغموض أو التشويش). عند النظر في عناصر جرايس الأربعة نجد أنها لا تقوم على أسس منطقية فحسب، بل على أسس أخلاقيّة أيضا بحيث يعتمد السامع أو القارئ على نزاهة صاحب الخطاب أثناء سعيه إلى ملء فراغات فهمه عند التلقّي. عند الإرسال والاستقبال يخفق البعض في مجاراة هذه العناصر دون قصد فتنشأ مشكلة سوء الفهم في التواصل. ولكن يحدث أيضا أن يستغلّ البعض عناصر هذا المبدأ فيوظفها متعمدا بشكل مقلوب في إيصال رسائل مضلّلة دون أن يتورّط حرفيا في ما يمكن اعتباره كذبا من الناحية الظاهرية، هذا ما تنشأ عنه وفق ما يبدو لي تلك المشكلة الأخلاقية التي يسميها بعضهم (الحقائق المضللة). بحسب التيار الناظر للعواقب في تقييمه للكذب فلا فرق كبير بين الحقيقة المضللة والكذب الصريح. ولكن عند الرجوع إلى كانط فإنّنا نجد تمييزا واضحا بينهما، فالمتحدث الذي يلجأ إلى قول الحقائق المضللة نيابة عن التورط في الكذب الصريح عند اضطراره لذلك مازال يدين باحترامه الوجداني للحقيقة، وهذا لا يشبه الاستهتار بها والجرأة على مخالفتها بشكل فجّ. فبحسب كانط عندما تسألني مبلغا من المال للاقتراض في الحين الذي لا أرغب فيه بإقراضك، فإنّ لجوئي إلى استعمال عبارة «ليس معي أي ريال» في حين أني أعلم أن معي أوراقا نقدية من فئات أكبر فهذا وإن لم يكن أخلاقيا تماما، إلا أنه يوحي باستحضاري لقيمة احترام الحقيقة مما يجعل تصرّفي أسمى في مستواه الأخلاقي من مستوى التورّط في كذبة صريحة. يقابل هذه الفكرة، قضية (الأكاذيب الصريحة البيضاء) التي يُدينها كانط، بينما يقبلها بنتام ومن معه من حيث كونها مفيدة أو على الأقل غير ضارّة. ولكن من المهم أن نشير قبل ختام هذه الورقة إلى أنّ موقف كانط ليس صوريّاً تماما كما يظهر بشكل أوّلي، حتى في أغرب أمثلته «مثال القاتل الذي يطرق الباب ليسأل صاحب الدار عن صديقه المختبئ لديه» . فكانط يفهم أنّ كلّ كذبة ستؤدي إلى جرّ كذبة أخرى بهدف تدعيمها وهكذا إلى ما لا نهاية، ولعلّ هذا ما ينشئ المجتمعات التي عبّر سلافويجيجيك عن انزعاجه من تصويرها في فيلم (فارس الظلام). * باحث سعودي